للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- فتح قبرص (١) (سنة ٢٨ هـ/ ٦٤٩ م) :

قبرص (٢) من أكبر جزائر البحر الأبيض المتوسط في أقصى شرقيه، وهي جزيرة جبلية بها سلسلتان من الجبال. يشتغل أهلها بالزراعة وأرضها خصبة جداً، وكانت تابعة للإمبراطورية الرومانية. كان فتح قبرص على يد معاوية سنة ٢٨ هـ غزاها في هذه السنة، وغزاها معه جماعة من الصحابة، فيهم أبو ذر (٣) ، ⦗٦٦⦘ وعبادة بن الصامت (٤) ، ومعه زوجته أم حرام (٥) ، وأبو الدرداء (٦) ، وشداد بن أوس (٧) . واستعمل عليهم عبد اللَّه بن قيس الحارثي (٨) . وكان معاوية قد ألحَّ على عمر بن الخطاب في غزو ⦗٦٧⦘ البحر لقرب الروم من حمص. وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نُباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه عمرو بن العاص:

"إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء. إن ركد خرق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول. يزاد فيه اليقين قلة. والشك كثرة. وهم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن اعتدل برق" (٩) .

فلما قرأ الكتاب عمر كتب إلى معاوية:

"والذي بعث محمداً صلى اللَّه عليه وسلم بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن اللَّه في كل يوم وليلة أن يغرق الأرض!! فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر باللَّه، لمسلم أحب إليَّ مما حوت الروم وإياك أن تعرض إليَّ فقد علمت ما لقي العلاء مني" (١٠) .

إن هذا الكتاب غريب فإنه يدل على أن العرب كانوا يخشون البحر، وقد حسبه عمر خطراً يهدد الأرض بالغرق كل يوم وليلة واعتبره كافراً. وعلى كل حال كان عمر رضي اللَّه عنه يكره أن يجازف بالمسلمين في البحر.

فلما كان زمن عثمان رضي اللَّه عنه كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر وألحَّ عليه في ذلك. وأخيراً أجابه عثمان. ولكنه احتاط فلم يجعل التجنيد إجبارياً بل جعله اختيارياً حيث قال:

"لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم. خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه". وبهذه نراه أجاب معاوية من جهة، ومن جهة أخرى لم يجازف بإرسال المسلمين، فجعل التجنيد ⦗٦٨⦘ اختيارياً حتى إذا ما هزموا لم يكن ملوماً، والظاهر أنه كان لا يزال متأثراً برأي عمر من حيث تخوفه من البحر. فأول أسطول جهزه المسلمون كان لغزو قبرص سنة ٢٨ هـ تحت قيادة عبد اللَّه بن قيس، وسار إليها عبد اللَّه بن سعد من مصر بسفن أقلعت من الإسكندرية فاجتمعوا غليها فصالحهم أهلها على جزية ٧٠٠٠ دينار كل سنة (١١) يؤدون إلى الروم مثلها ولا منعة لهم على المسلمين ممن أرادهم من سواهم، وعلى أن يكونوا عوناً للمسلمين على عدوهم ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم. وعلى ذلك أخذت قبرص بسهولة فقد كانت الحامية المسيحية فيها ضعيفة. وقيل: إن عبد اللَّه بن قيس غزا في البحر خمسين غزوة بين شاتية وصائفة، ولم يغرق فيه أحد، ثم إنه قتل عندما كان مشتغلاً بكشف مرفأ في الروم، إذ خرج في قارب طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، فعرفوه وقتلوه، ذلك في آخر زمان عبد اللَّه بن قيس الحارثي.

وفي هذه الغزوة ماتت أم حرم بيت ملحان الأنصارية زوجة عبادة بن الصامت. ألقتها بغلتها بجزيرة قبرص فاندقت عنقها فماتت تصديقاً للنبي صلى اللَّه عليه وسلم.

وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يكرمها ويزورها في بيتها ويقيل عندها، وأخبرها أنها شهيدة. ففي ذات يوم نام في بيتها فاستيقظ وهو يضحك وقال: "عُرض عليَّ ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة". فقالت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يجعلني منهم. قال: "إنك منهم". ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقالت: يا رسول اللَّه ما يضحكك؟! قال: "عُرض عليَّ ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة". قالت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين" (١٢) . فتزوجها عبادة بن الصامت فأخرجها معه، فلما جاز البحر ركبت دابة فصرعتها فقتلتها وقد دفنت رحمها اللَّه في قبرص.

وفي هذه السنة ٢٨ هـ تزوج عثمان نائلة ابنة الفرافصة، وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها (١٣) . وسيأتي لها ذكر عند مقتل عثمان رضي اللَّه عنه. وفيها بنى عثمان داره بالمدينة المسماة بالزوراء وفرغ منها.


(١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٠٠، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٢/ص ٤٨٨، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص ١٢٣: "وفي سنة سبع وعشرين هجرية غزا معاوية قُبْرُس"، الذهبي، تاريخ الإسلام ج ٣/ص ٣٢٥.
(٢) وهي عند الطبري في تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٠٠، وابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٢/ص ٤٨٨، والسيوطي، تاريخ الخلفاء ص ١٢٣، والذهبي في تاريخ الإسلام ج ٣/ص ٣٢٥: "قُبْرُس" بالسين، والمؤلف هنا أوردها بالصاد.
(٣) أبو ذر الغفاري هو جندب بن جُنادة بن سفيان بن عبيد، من بني غفار، من كنانة بن خزيمة، أبو ذر، صحابي من كبارهم، قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة وكان خامساً، يضرب به المثل في الصدق، هو أوَّل من حيَّا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بتحية الإسلام، هاجر بعد وفاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى بادية الشام، فأقام إلى أن توفي أبو بكر وعمر وولي عثمان، فسكن دمشق وجعل ديدنه تحريض الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم، فاضطرب هؤلاء، فشكاه معاوية - وكان والي الشام - إلى عثمان الخليفة، فاستقدمه الأخير إلى المدينة، فاستأنف على نشر رأيه، فأمره عثمان بالرحيل إلى الربذة وهي قرية من قرى المدينة، فسكنها إلى أن مات سنة ٣٢ هـ، ولمَّا مات لم يكن في داره ما يكفَّن به وذلك لأنه كان كريماً لا يخزن من المال قليلاً ولا كثيراً، ولعل أول اشتراكي طاردته الحكومات. في اسمه واسم أبيه خلاف. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج ٤/ص ١٦١، الإصابة ج ٧/ص ٦٠، صفة الصفوة ج ١/ص ٢٣٨، حلية الأولياء ج ١/ص ١٥٦، ذيل المذيّل ص ٢٧، الذريعة ج ١/ص ٣١٦، الكنى والأسماء ج ١/ص ٢٨.
(٤) عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة الأولى والثانية، وكان نقيباً على قوافل بني عوف بن الخزرج، وآخى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بينه وبين أبي مرئد الغنوي، وشهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، واستعمله على بعض الصدقات، وكان يُعلِّم أهل الصفة القرآن، ولما فتح المسلمون الشام، أرسله عمر بن الخطاب، وأرسل معه معاذ بن جبل، وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن ويفقِّهوهم في الدين، وأقام عبادة بحمص وكان طويلاً جسيماً جميلاً.
(٥) هي أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية، الخزرجية، وهي خالة أنس بن مالك رضي اللَّه عنه وزوجة عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه، توفيت بقبرس سنة ٢٧ هـ ودفنت بها. ابن الأثير، الكامل في التاريخ ص ٤٨٩ الهامش رقم (١) .
(٦) هو عويمر بن مالك بن قيس بن أمية، الأنصاري، الخزرجي، أبو الدرداء، وهو مشهور بهذا الاسم، المتوفى سنة ٣٢ هـ، صحابي، من الحكماء والفرسان القضاة، كان قبل البعثة تاجراً، ثم انقطع للعبادة، اشتهر بالشجاعة والنسك، هو أوَّل قاضٍ في الشام، ولاه معاوية بأمر من عمر، قال ابن الجزري: "كان من العلماء الحكماء، وهو أحد الذين جمعوا القرآن، حفظاً على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم بلا خلاف. للاستزادة راجع: الإصابة ج ١/ص ١١، حلية الأولياء ج ١/ص ١٦٧، الاستيعاب ج ٣/ص ٢٥٠، التاج ج ٢/ص ٣٠٠، غاية النهاية ج ١/ص ٢٦٠، صفة الصفوة ج ١/ص ٥٧، حُسن الصحابة ١١٠، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢/ص ١٢٣، الكوكب الدرية ج ١/ص ٢٦٠، تهذيب التهذيب ج ٨/ص ١٦٠، تاريخ البخاري الكبير ج ٧/ص ١٧٧، الثقات ج ٣/ص ١٦٨، أُسد الغابة ج ٤/ص ٢٠٠، تجريد أسماء الصحابة ج ١/ص ٣٠٠، طبقات ابن سعد ج ٢/١٠٧.
(٧) هو شداد بن أوس بن ثابت الخزرجي، الأنصاري، أبو يعلى، صحابي من الأمراء، ولاه عمر ولاية حمص، لما قُتل عثمان اعتزل، وعكف على العبادة، كان فصيحاً، حليماً، حكيماً، قال أبو الدرداء: "لكل أمة فقيه، وفقيه هذه الأمة شداد بن أوس". توفي في القدس سنة ٥٨ هـ، عن ٧٥ سنة. له في كتب الحديث روايات. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج ١/ص ٥٧٣، تهذيب التهذيب ج ١/ص ٣٤٧، خلاصة تهذيب الكمال ج ١/ص ٤٤٤، الكاشف ج ٢/ص ٥، الثقات ج ٢/ص ١٨٥، أُسد الغابة ج ٢/ص ٥٤٧، تجريد أسماء الصحابة ج ١/ص ٢٥٣، الاستيعاب ج ٢/ص ٦٩٤، الإصابة ج ٣/ص ٣١٩، طبقات ابن سعد ج ٢/ص ٣٧٤، صفة الصفوة ج ١/ص ٢٩٦، حلية الأولياء ج ١/ص ٢٦٤.
(٨) هو عبد اللَّه بن قيس الحارثي، حليف بني فزارة، أمير البحر في صدر الإسلام، كان مقيماً في الشام، أراد معاوية غزو قبرس فولاه قيادة الغزاة سنة ٢٧ هـ فتقدم يريدها فالتقى بعبد اللَّه بن سعد قادماً في غزو مصر، فصالحهما أهل قبرس على سبعة آلاف دينار يؤدونها كل سنة، غزا خمسين غزاة، صيفاً وشتاءً، ولم يغرق من جيشه أحد، ولم ينكب، قتله الروم وهو يطوف في أحد المرافئ متخفَّياً، دلَّتهم عليه امرأة كانت تتسوَّل فأعطاها، فعرفته فراسة. للاستزادة راجع: الكامل لابن الأثير ج ٣/ص ٣٧، الإصابة ترجمة ٦٣٣٥.
(٩) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٠٠، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٢/ص ٤٨٨.
(١٠) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٠٠، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٢/ص ٤٨٨.
(١١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٠١، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٢/ص ٤٨٩.
(١٢) رواه أحمد في (م ٦/ص ٣٦١) .
(١٣) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٠٣.

<<  <   >  >>