- الحمد للَّه رب العالمين، وأحكم الحاكمين، والصلاة والسلام على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
أما بعد، فقد شاء اللَّه سبحانه وتعالى أن أثابر على ما بدأت به من وضع كتب في التاريخ الإسلامي خدمة للمسلمين في جميع أقطار الأرض.
وها أنذا أتقدم إلى الباحثين والقارئين من أبناء اللغة العربية بالكتاب الرابع من سلسلة التاريخ الإسلامي في حياة "عثمان بن عفان" - رضي اللَّه عنه - وخلافته. وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وبذلك سددت فراغاً وأكملت نقصاً إذ كان الناس إلى الآن لا يجدون كتاباً قائماً بذاته لكل خليفة، يتناول ترجمته وما جرى من الحوادث في عهده، حتى إن علماء الإفرنج مع اجتهادهم في التأليف نراهم قد حذوا حذو مؤلفي المسلمين فلم يفردوا لكل خليفة كتاباً. فللأستاذ "موير" كتاب: تاريخ الخلافة الإسلامية، وللأستاذ "واشنجتون [واشنطون] إيرفنج" كتاب: محمد وخلفائه، وكلاهما في مجلد واحد، وهكذا غيرهما من المؤلفين.
ولا شك أن هذا نقص يجب تداركه، على أنه لا يغيب عنا أن نذكر أن العلاَّمة رفيق بك العظم قد تدارك الأمر فجعل لكل خليفة جزءاً من كتابه: أشهر مشاهير الإسلام، ولم أعثر إلا على الأجزاء الأربعة الأولى إلى عثمان.
ثم لا نجد غير كتب التاريخ العامة كالطبري وهو ثقة، وابن الأثير، وابن خلدون وهو مختصر، اختصره من الطبري غالباً. وحوليات البرنس كيتاني الذي ترجم النصوص العربية إلى اللغة الإيطالية. والكتب العربية في الخلفاء الراشدين ما هي إلا سير. ثم كتب التراجم: كأسد الغابة والإصابة، وطبقات ابن سعد، والاستيعاب، والكمال، والتهذيب الخ، وهي تكاد تكون متشابهة إنما بعضها مطوَّل وبعضها مختصر وقد نقل عنها المستشرقون في تأليف دائرة المعارف الإسلامية، فلم يزيدوا عليها إلا تعليقات من عندهم ترمي إلى التشكيك من غير تحقيق كما ذكرناه في كتابنا هذا في وفاة العباس بن عبد المطلب، واستسقاء عمر بن الخطاب به في حياته.
أما كتاب تاريخ الأمم الإسلامية للمرحوم محمد الخضري بك، فهو مختصر ألقاه محاضرات في الجامعة المصرية القديمة، وكان فيها محتاطاً أشد الاحتياط، فلم يزج بنفسه في التفاصيل ومناقشة مختلف الروايات، فلا يجد فيه مُريد التوسع بغيته. هذا ويجب أن يكون ⦗١٠⦘ المؤرخ في زماننا مجيداً للغة أجنبية على الأقل، ولا يكفي أن يُتَرجم له. ففي عهد الخلفاء مثلاً يتحتم الإطلاع على ما كتبه الإفرنج في تاريخ سقوط الدولة الرومانية وتاريخ مصر، والرجوع إلى دوائر المعارف، فمؤرخو العرب مثلاً يذكرون المقوقس كأنه كان حياً عندما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية للمرة الثانية مع أنه كان قد مات الخ.
أما الواقدي: فقد قرأت شيئاً مما كتبه عن فتوح إفريقية فرأيت العجب العجاب، فهي قصص لا يصح اعتبارها تاريخاً، ولا حاجة بي إلى ضرب الأمثال خشية الإطالة.
ولنعد إلى عثمان - رضي اللَّه عنه - فنقول: إن اختياره قد تمَّ بتفويض أرباب الشورى إلى عبد الرحمن بن عوف أمر اختيار أحد الرجلين: علي، أو عثمان، بعد أن تنازل هو عن ترشيح نفسه لعدم رغبته في الخلافة وكان صهر عثمان، وكان أغلب المسلمين يريدون تولية عثمان بعد عمر.
فقد كان عمر شديداً لا يحابي أحداً، ولا يخاف أحداً، ولا يتهاون، ولا يلين مع حرصه على إجراء العدل، وكانوا يرهبونه ويحسبون حسابه، وكان شديداً حتى على نفسه، متقشفاً كارهاً للترف والتنعم في المأكل والملبس.
أما عثمان فقد كان ليناً حليماً، رحيماً، يصل أهله، شديد الحياء، لا يميل إلى العنف. فكان انتخابه كما قيل: رد فعل لخلافة من قبله. ولما كان عليٌّ شديداً لم يريدوا توليته.
قال الأستاذ رفيق بك العظم: "والذي أعتقده أن قريشاً وإن كانت لا تريد استخلاف علي لأسباب سيأتي بيانها إلا أن الخلافة من أبي بكر إلى عثمان تمت على ترتيب طبيعي بحكم الحاجة، وعلى وفق المعروف يومئذ للمسلمين، والثابت عندهم من أقوال الرسول صلى اللَّه عليه وسلم التي تشير إلى مثل هذا الترتيب في المقام والدرجة التي وضع كلاً منهم فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وعليٌ نفسه يعرف ذلك ويعترف به" اهـ (١) .
لكن هل كان ذلك ملحوظاً في اختيار عثمان؟ لا أظن ذلك، ولم يكن ولم يكن يلحظه عمر بن الخطاب حين اختار أهل الشورى.
وقد خاف بنو أمية سيادة بني هاشم فنجحوا في اختيار عثمان، وكانت شخصية عثمان فوق ذلك شخصية محبوبة ومحترمة، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحبه، ويقربه، ويلاطفه لحسن أخلاقه، فزوجه ابنتيه، فهذه أسباب هيأت لعثمان تسلم الخلافة ⦗١١⦘.
لما ولي عثمان - رضي اللَّه عنه - الخلافة قضى الشطر الأول منها وهو أحب إلى الناس من عمر للينه ورأفته، وقد امتلأت الأيدي من المغانم.
إن الفتنة التي أدَّت إلى قتل عثمان - والتي سَنُعنَى بتفصيلها في كتابنا هذا - قد أدَّت إلى نتائج وخيمة. أدَّت إلى انقسام المسلمين، وسفك الدماء، والتحزْب، والتشيَع، وتفرقة الكلمة بعد قتله - رضي اللَّه عنه - واقتتلوا للأخذ بثأره حتى قتل من المسلمون تسعون ألفاً!!.
إن للفتنة أسباباً ذكرها المؤرخون وأصدق المصادر التي بين أيدينا تاريخ ابن جرير الطبري. وقد كانت بين كبار الصحابة وعثمان - رضي اللَّه عنه - محادثات ومباحثات طويلة وعديدة ومشاورات بشأن الفتنة ونشأتها، وأسبابها، فإنه - رضي اللَّه عنه - ما ترك أحداً يوثق به ويعوّل على رأيه إلا استشاره. وقد أدلى إليه كل برأيه.
وهنا يجدر بي أن أبين موقف المؤرخ ومسؤوليته فأقول:
المؤرخ يستطيع أن يستعرض الحوادث أن يستنتج منها ما يبني حكمه عليه كالقاضي النزيه، وليس من شأنه أن يلتمس المعاذير ويميل كل الميل مع قوم دون آخرين. فإن من عَدَّ السيئات حسنات، والأغلاط في حكم الصواب جرياً وراء إحساسه وعواطفه، أو خشية الرأي العام، أو البيئة، أو لإشباع شهوة في نفسه، أو للتظاهر بالعلم، أو الصلاح لا يعد في نظرنا مؤرخاً، بل متحيزاً، أو مغرضاً. وقد تصدَّى قوم لتدوين سير بعض السلف فنزهوهم عن جميع الهفوات معتبرين ذلك تعبداً، وصلاحاً، ونسكاً، غاضين الطرف عن الحوادث المؤلمة التي ترتبت عليها. وهذا فضلاً عن كونه مخالفاً مخالفة صريحة للتاريخ ولآراء المعاصرين من السلف الصالح الذين هم أعرف من غيرهم بالدين وأصوله، بأساليب الحكم في زمانهم، وأسباب السخط العام، فإنه مضيع للفائدة المرجوة من التاريخ وما فيه من عبر يعتبر بها الخلف.
ومن المؤرخين من يتصدَّى للطعن، واللعن، وتشويه الحقائق، وتسوئة للمحاسن بدافع التعصب لرأي، أو لكي يعدُّ من أرباب العقول الراجحة. وهؤلاء ينفثون سمومهم ولا يدركون مغبة ما تخطه أقلامهم الجامحة من إفك وبهتان.
وإني أرجو أن أكون قد خدمت الحقيقة والتاريخ ببحثي في سيرة عثمان - رضي اللَّه عنه -، وقدَّمت لأهل هذا العصر والعصور المقبلة درساً يستفيدون منه في أمور دينهم ودنياهم.
(١) كتاب أشهر مشاهير الإسلام، رفيق بك العظم.