(٢) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في الرحمة، ح (٤٩٤١) ، ٥/٢٣١، والذهبي في العلو ص ٢٠، وأحمد في المسند ٢/١٦٠، والترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، ح (١٩٠٤) ، ٤/٣٢٣، وهو عندهما أتم. والحاكم في المستدرك، وصححه ٤/١٥٩، والدارمي في الرد على الجهمية ص ٢٠. وهذا الحديث من الأدلة الصريحة الواضحة التي تدل على علو الله تبارك وتعالى بذاته، وأنه في السماء. ومن أجل ذلك أورده المصنف. كما يدل على إثبات صفة الرحمة لله تبارك وتعالى، وهي من الصفات الثابتة له سبحانه بالكتاب، كما ثبتت بالسنة، قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: من الآية٧) ، وقوله سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: من الآية٤٣) ، وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: من الآية٥٤) ، وقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} (يوسف: من الآية٦٤) . ومن السنة هذا الحديث، وحديث أسامة في البخاري: " ... إنما يرحم الله من عباده الرحماء" فتح الباري ١٣/٤٣٤. وحديث أبي هريرة المتفق عليه في اختصام الجنة والنار وفيه: " ... فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي ... " الحديث، وغيرهما من الأحاديث. إلا أن المتكلمين من الجهمية وأضرابهم أنكروا صفة الرحمة، وأرجعوها إلى معنى الإرادة، بحجة أن في إثباتها تشبيها للخالق بالمخلوق، لأنها في الإنسان ضعف وخور وتألم على المرحوم، وإثبات الرحمة لله يقتضي إضافة هذا المعنى بما فيه من ذم. إلا أن هذا القول باطل، لأن مذهب السلف -رضوان الله عليهم- التفريق بين محبته وغضبه ورضاه وبين إرادته، وما أوردوه غير وارد للأمور الآتية: ١- أن وصف الرحمة في الآدميين من الأمور الممدوحة، أما وصف الخور والضعف فهو من الأمور المذموم. قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة} (البلد: من الآية١٧) ، ونهى عباده عن الوهن والحزن، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:١٣٩) ، وندبهم إلى الرحمة. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي". وقال: "من لا يرحم لا يرحم". ومحال مع هذا أن يكون المراد لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي. ولكن لما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور -كما في رحمة النساء، ونحو ذلك- ظن الغالط أنها كذلك مطلقا. ٢- لو قدر أنه في حق المخلوقين مستلزمة لذلك، لم يجب أن تكون في خق الخالق مستلزمة له، كما أن جميع صفاتنا من العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك، تستلزم فينا نقصا وحاجة، يجب تنزيه الله تعالى عنها، لأن صفات الله كاملة لا نقص فيها، لأنه سبحانه بذاته وصفاته منزه عن النقائص. فصفاته لا تشبه صفات المخلوقين. ٣- وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين، والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا، فنحن وصفاتنا وأفعالنا مقرونون بالحاجة إلى الغير، والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن نخلو عنه، فهو بنفسه حي قيوم، واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء، فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال من العلم، والقدرة، وغير ذلك هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، ولا يقدر ولا يعلم، لكون ذلك ملازما للحاجة والضعف فينا. فكذلك الرحمة وغيرها إذا قدر أنها في حقنا ملازمة للحاجة والضعف لم يجب أن يكون في حق الله ملازمة لذلك. ٤- إننا نعلم بالاضطرار أنا إذا فرضنا موجودين أحدهما يرحم غيره، فيجلب له المنفعة، ويدفع عنه المضرة، والآخر قد استوى عنده هذا وهذا، وليس عنده ما يقتضي جلب منفعة ولا دفع مضرة، كان الأول أكمل. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٦/١١٧-١١٨. وبهذا تبين أن شبهة القوم واهية، وأن صفة الرحمة ثابتة بالعقل، كما ثبتت بالنص، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: "في الأرض وفي السماء" أي من على الأرض، ومن على السماء، لأن "في" هنا بمعنى "على"، كما في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْض} (التوبة: من الآية: ٢) ، أي على الأرض. وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: من الآية: ٧١) ، أي عليها.