للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستنادًا إلى هذا المنطق الفطري الذي يقتنص أوجه التناسب بين الآيات برشاقة وخفة، نحسب أن فرص الغموض في استجلاء هذه الوجوه لا تكثر إلا في الروابط بين السور، ولو وقع إلينا كتاب أبي جعفر بن الزبير "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن" لرأينا أنماطا من هذا الغموض، وصورا من هذا الخفاء، وما نظن احتفال المفسرين قليلا بهذا النوع لدقته وحسب، بل لقلة جدواه وكثرة التكلف فيه، فإنهم يقطعون أنفاسهم من شدة اللهاث وهم يلتمسون بين سورتين لفظين يتشابهان، أو آيتين تتناظران، حيثما كان موضوعهما من السورتين في البداية أو الوسط أو الختام.

فليزعموا أن افتتاح سورة البقرة بقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى الصراط في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ١ بفاتحة الكتاب، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب٢. وليزعموا أن افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب ما قبلها من قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} ٣، وأن افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح مناسب افتتاح سورة الكهف بالتحميد "لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد"٤ وأن سورة الكوثر مقابلة لسورة الماعون، فناسب أن تأتي بعدها، لأن في السابقة وصفا للمنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة, والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر في مقابلة البخل {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} أي: دم عليها، وفي مقابلة الرياء {لِرَبِّكَ} أي: لرضاه لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون {وَانْحَرْ} وأراد به التصدق بلحم الأضاحي٥.


١ سورة الفاتحة ٦.
٢ قارن بالبرهان ١/ ٣٨.
٣ سورة سبأ ٥٤.
٤ البرهان ١/ ٣٩.
٥ نفسه ١/ ٣٩.

<<  <   >  >>