للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنَّهُ يَتِيمٌ، وَذَلِكَ: أَنَّا إنَّمَا كُنَّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فَكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ؟! وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وجَدُّه؟ فَكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قلتُ لِصَاحِبِي: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ، فلآخذنَّه، قَالَ: لَا عليكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يجعلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً. قَالَتْ: فذهبتُ إلَيْهِ فأخذتُه، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أخذِه إلَّا أَنِّي لَمْ أجد غيرَه.

الخير الذي أصاب حليمة: قَالَتْ: فَلَمَّا أخذتُه، رجعتُ بِهِ إلَى رَحْلِي فَلَمَّا وَضَعْتُهُ فِي حِجْري أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ٢، فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَامَا، وَمَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا إنَّهَا لَحَافِلٌ، فَحَلَبَ مِنْهَا مَا شَرِب، وشربتُ مَعَهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وَشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ. قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا: تعلَّمي وَاَللَّهِ يَا حليمةُ، لَقَدْ أخذتِ نَسمةً مُبَارَكَةً، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا وركبتُ أَتَانِي، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَاَللَّهِ لقطعتْ بالرَّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهم، حَتَّى إنَّ صَوَاحِبِي لِيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤيْب، ويحكِ! ارْبَعِي عَلَيْنَا، أليستْ هَذِهِ أتانَك الَّتِي كنتِ خَرَجْتُ عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاَللَّهِ. إنَّهَا لَهِيَ هِيَ فيقلْنَ: وَاَللَّهِ إنَّ لَهَا لشأَنًا. قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ. وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أجدبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عليَّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبَّنا. فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ. وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ، وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْع. حَتَّى كَانَ الْحَاضِرُونَ من قومنا


١ والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودًا عند أكثر نساء العرب، حتى جرى المثل: "تجوع المرأة ولا تأكل بثدييها" وكان عند بعضهن لا بأس به، فقد كانت حليمة وسيط في بني سعد، كريمة من كرائم قومها، بدليل اختيار الله تعالى إياها لرضاع نبيه -صلى الله عليه وسلم- كما اختار له أشرف البطون والأصلاب والرضاع كالنسب؛ لأنه يغير الطباع.
وفي المسند عن عائشة –رضي اللَه عنها– ترفعه: "لا تسترضعوا الحمقى، فإن اللبن يورث" ويحتمل أن تكون حليمة ونساء قومها طلبن الرضعاء اضطرارًا للأزمة التي أصابتهم، والسنة الشهباء التي اقتحمتهم.
٢ وذكر غير ابن إسحاق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبل إلا على ثديها الواحد، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر، فيأباه كأنه قد أشعر -عليه السلام- أن معه شريكًا في لبانها، وكان مفطورًا على العدل، مجبولا على المشاركة والفضل -صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>