للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

زيد يرحل إلى الشام وموته: ثُمَّ خَرَجَ يطلبُ دينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَسْأَلُ الرهبانَ وَالْأَحْبَارَ، حَتَّى بَلَغَ الموصِل والجزيرةَ كلَّها، ثُمَّ أَقْبَلَ فجالَ الشامَ كلَّه، حَتَّى انْتَهَى إلَى رَاهِبٍ بميْفَعة١ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، كَانَ يَنْتَهِي إلَيْهِ عِلْمُ أهلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، فَسَأَلَهُ عَنْ الحنيفيةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: إنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا أَنْتَ بواجدٍ مَنْ يَحْمِلُكَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ قَدْ أظلَّ زمانُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِنْ بِلَادِكَ الَّتِي خرجتَ مِنها، يُبعث بِدِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، فالحقْ بِهَا، فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ الآنَ، هَذَا زمانُه، وَقَدْ كَانَ شَامَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَلَمْ يرضَ شَيْئًا مِنْهُمَا، فَخَرَجَ سَرِيعًا، حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّاهِبُ مَا قَالَ، يُرِيدُ مكةَ، حَتَّى إذَا تَوَسَّطَ بلادَ لخم، عَدَوْا عليه فقتلوه.

ورقة يرثي زيدًا: فَقَالَ ورقةُ بنُ نَوْفَلِ بنِ أَسَدٍ يَبْكِيهِ:

رشدتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا ... تجنبْتَ تَنُّورًا مِنْ النَّارِ حَامِيَا٢

بِدِينِكَ رَبًّا لَيْسَ رَبٌّ كمثلِه ... وترككَ أوثانَ الطَّوَاغِي كَمَا هيَا

وَإِدْرَاكُكَ الدينَ الَّذِي قَدْ طلبتَه ... وَلَمْ تكُ عَنْ توحيدِ ربِّك ساهيَا

فأصبحتَ فِي دارٍ كريمٍ مقامُها ... تُعلَّلُ فِيهَا بالكرامةِ لَاهِيَا

تُلاقي خليلَ اللهِ فِيهَا، وَلَمْ تكنْ ... مِنْ الناسِ جَبَّارًا إلَى النارِ هاويَا

وَقَدْ تدركُ الإنسانَ رَحْمَةُ ربِّه ... ولوكان تحتَ الأرضِ سبعين واديَا٣


١ في الأصل بكسر الميم من ميفعة، والقياس فيها: الفتح؛ لأنه اسم الموضع أخذ من اليفاع، وهو المرتفع من الأرض.
٢ رشدت وأنعمت ابن عمرو، أي: رشدت وبالغت في الرشد، كما يقال: أمعنت النظر وأنعمته.
٣ قوله: "ولو كان تحت الأرض سبعين واديا" بالنصب. نصب سبعين على الحال؛ لأنه قد يكون صفة للنكرة، كما قال: "فلو كنت في جب ثمانين قامة" وما أصله صفة للنكرة يكون حالا من المعرفة، وهو هنا حال من البعد، كأنه قال: ولو بَعُد تحت الأرض سبعين، كما تقول: بَعُد طويلا، أي: بُعدًا طويلًا، وإذا حذفت المصدر، وأقمت الصفة مقامه لم تكن إلا حالا.

<<  <  ج: ص:  >  >>