للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وذاك أنّ الفحول البيض عاجزةٌ ... عن الجميل فكيف الخصية السّود؟

الخصية: جمع خصى.

يقول: أنا أعذره؛ لأن الذكور الأحرار تعجز عن الجميل، فكيف. لا يعجز السود الخصيان؟ هذا آخر ما قاله في كافور وإنما أخرنا مدح فاتك لئلا يختلط بغيره، وسنأتي بمدحه بعد هذه القصيدة إن شاء الله تعالى.

[خروج المتنبي من مصر إلى الكوفة]

وكان جميع جيرانه يراعونه حتى كان قوم يمرون حذاء منزله يتعرفون من يدخل إليه ويخرج من عنده، ويغدو كل يوم صاحب الخبر إلى بابه، حتى يقف على حاله وهو يعلم ذلك ولا يظهر لهم.

وكان يتسلى بفاتك وبالحديث معه، وتوفي فاتك فعمل أبو الطيب على الرحيل، وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في لطف ورفق ولا يعلم به أحداً من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ، فخرج فدفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عدة لعشر ليال، وتزود لعشرين وكتب إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف الخزاعي.

جزى عرباً أمست ببلبيس ربّها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها

وروى: ببلبيس وهو مكان بأعلى الشام دون مصر على بحر القلزم، والمسعاة: واحدة المساعي.

يقول: جزى الله العرب الذين هم أهل هذا المكان بمساعيها جزاء حسناً تقر بذاك عيونهم. وربها فاعل جزى: أي جزاها ربها.

كراكر من قيس بن عيلان ساهراً ... جفون ظباها للعلا وجفونها

كراكر أي جماعات، وهي بدل من عرب.

يقول: جفون سيوفهم فقدت نصولها، وجفون عيونهم فقدت نومها؛ لأنهم يسهرون لطلب المعالي، شاهرين سيوفهم للذب عنهم. ولما ذكر سهر عيونهم، ذكر سهر جفون السيوف؛ لتجانس اللفظ.

وخصّ بها عبد العزيز بن يوسفٍ ... فما هو إلا غيثها ومعينها

روى: معينها ومعينها والهاء في بها يرجع إلى الأرض: التي هي بلبيس. وقيل: إلى الدعوة التي يدل عليها قوله: جزى الله والهاء في غيثها ومعينها يرجع إلى العرب: أي خص الله بهذه الدعوة هذا الرجل، فإنه سيد هذه العرب، يقوم جوده لها مقام الغيث.

والمعين: الماء الجاري من العيون.

فتىً زان في عينيّ أقصى قبيله ... وكم سيّدٍ في حلّةٍ لا يزينها

القبيل: الثلاثة فصاعداً من ولد أب واحد، أو من قوم شتى. والقبيلة: لا تقال إلا في ولد أب واحد، والحلة: جماعة بيوت الأعراب والجمع الحلل.

يقول: زين في عيني قبيله وصار قومه مفتخرين به وبشرفه، وكم سيد لا يتجاوز فخره إلى غيره.

وأخفى طريقه فلم يأخذوا له أثراً حتى قال بعض أهل البادية: هبه سار فهل محا أثره؟ وقال بعض المصريين: إنما أقام حتى عمل طريقاً تحت الأرض.

وتبعه البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند، وكتبوا إلى عوالة الحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي. وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجه الطير إلى الرثنة حتى خرج إلى ماء يعرف بنخل، وتسميه العامة بحرا في التيه بعد أيام، فلقي عنده في الليل ركباً وخيلاً صادرةً عنه، فقاتلوه فأخذهم وتركهم، وسار حتى خرج من قرب النقاب، فرأى رائدين لبني سليم على قلوصين، فركب الخيل وطردهما حتى أخذهما، فذكرا له أن أهلها أرسلوهما رائدين، وواعدهما النزول ذلك اليوم بين يديه، فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما، وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل. فضرب له ملاعب ابن أبي النجم خيمةً بيضاء وذبح له.

وغدا وسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس فذبح له عفيف المعنى غنماً وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه اثنان من جذيم يدلانه، فصعد في النقب المعروف بتربان، وفيه ماء يعرف بعرند فسار يوماً وبعض ليلة ونزل.

وأصبح فدخل حسمي وحسمي هذه أرض صلبة تودي إلى أثر النخلة من لينها، وتنبت جميع النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء، متناوحة ملس الجوانب إذا نظر الناظر إلى قلة أحدها فتل عنقه - حتى يراها - بشدة. ومنها ما لا يقدر أحد أن يصعده، ولا يكاد القتام يفارقه، ولهذا لما قال النابغة:

وأصبح عالقا بجبال حسمي ... دقاق التّرب مخترم القتام

اختلف الناس في تفسيره، ولم يعلموا ما أراده.

<<  <   >  >>