للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين، إن جعل في كتاب الله عز وجل يحتمل معنيين عند العرب، معنى خلق، ومعنى صير غير خلق، فلما كان خلق حرفا محكما لا يحتمل معنى غير الخلق، ولم يكن من صناعة العباد لم يتعبد الله به العباد فيقول لهم: اخلقوا أو لا تخلقوا، إذ كان الخلق ليس من صناعة المخلوقين وكان من شغل الخالق سبحانه وتعالى".

ولما كان جعل على معنى صير لا على- معنى الخلق خاطب الله به العباد بالأمر والنهي فقال: اجعلوا ولا تجعلوا، ولما كان جعل كلمة تحتمل معنيين، معنى خلق ومعنى صير لم يدع الله في ذلك اشتباها على خلقه ولبسا على عباده فيلحد الملحدون في ذلك ويشبهون على خلقه كما فعل بشر وأصحابه حتى جعل على كل كلمة علما ودليلا فرق به بين الجعل الذي يكون على معنى الخلق، وبين الجعل الذي يكون على معنى التصيير، فأما الجعل الذي هو على معنى الخلق فإن الله عز وجل جعله من القول المفصل وأنزل القرآن به مفصلا وهو بيان لقوم يفقهون. والقول المفصل يستغني به السامع إذا أخبر"به قبل " أن توصل الكلمة بغيرها من الكلام إذ كانت قائمة بذاتها تدل على معناها، فمن ذلك قول الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ١

فسواء عند العرب قال، وجعل، أو قال وخلق، لأنها قد علمت أنه أراد بهذا اجعل الخلق، لأنه أنزل من القول المفصل، وقال عز وجل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} ٢ فعقلت العرب عنه أن معنى هذا وخلق لكم إذ كان قولا مفصلا. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} ، فعقلت العرب عنه أنه عنى بهذا الجعل الخلق، إذ كان من القول المفصل، وسواء عندها قال جعل أو قال خلق، لأنها قد علمت ما أراده وما عنى. ومثل هذا في القرآن كثير جدا، يا أمير المؤمنين، فهذا وما كان على مثاله من القول المفصل الذي يستغني المخاطب به والسامع له بكل كلمة عما بعدها.

وأما جعل الذي هو بمعنى التصيير الذي هو غير خلق فإن الله عزوجل أنزله من القول الموصل الذي لا يدري المخاطب "به " حتى تصل الكلمة بالكلمة التي


١ سورة الأنعام آية ١.
٢ سورة النحل آية ٧٢.

<<  <   >  >>