للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) إلى قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} ١.

قال: "قال المفسرون ذهب متوجهاً من المشرق قاصداً للشمال، فوصل إلى ما بين السدين وهما سدان كانا معروفين في ذلك الزمان.

سدان من سلاسل الجبال المتصلة يمنة ويسرة حتى تتصل بالبحار بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوماً لا يكادون يفقهون قولاً لعجمة ألسنتهم واستعجام أذهانهم وقلوبهم.

وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم وراجعهم وراجعوه. فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج وهما: أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} أي جعلاً {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} .

ودل ذلك على عدم افتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه فبذلوا له أجره ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي وهو إفسادهم في الأرض.

فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ولا رغبة في الدنيا ولا تاركاً لإصلاح أحوال الرعية بل قصده الإصلاح فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة ولم يأخذ منهم أجرة وشكر ربه على تمكينه واقتداره فقال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي مما تبذلون لي وتعطوني وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم {أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} أي: مانعا من عبورهم عليكم، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي قطع الحديد فأعطوه ذلك {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي الجبلين اللذين بنى بينهما السد {قَالَ انْفُخُوا} أي أوقدوها إيقاداً عظيماً واستعملوا لها المنافيخ لتشتد فتذيب النحاس.

فلما ذاب النحاس الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أي نحاساً مذاباً.

فأفرغ عليه القطر فاستحكم السد استحكاماً هائلاً، وامتنع به من وراءه من الناس من ضرر يأجوج ومأجوج.

{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} أي فما لهم استطاعة ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه ولا على نقبه لإحكامه وقوته، فلما فعل هذا الفعل الجميل


١ سورة الكهف/ الآيات ٨٩، ٩٨.

<<  <   >  >>