للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وليس في الآيتين دليل لما ذهبوا إليه، إذا فهمتاًُ فهماً صافياً خالياً من التحريف والتأويل.

وقد رد ابن سعدي عليهم في استدلالهم هذا عند تفسيره لهاتين الآيتين، وبين أنه ليس فيهما دلالة لما ذهبوا إليه.

فقال عند الآية الأولى وهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ١.

"أي لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه في الآخرة، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم.

فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم، فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة. فإنه لو أراد نفي الرؤية لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة. بل فيها ما يدل على نقيض قولهم"٢.

وقال عند الآية الثانية وهي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ٣.

"أي لن تقدر الآن على رؤيتي فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة.

فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وأنه ينشئهم نشأة كاملة يقدرون معها على رؤية الله تعالى؛ ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل فقال مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه} إذا تجلى الله له {فَسَوْفَ تَرَانِي} . {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} الأصم الغليظ {جَعَلَهُ دَكّاً} أي انهال مثل الرمال، انزعاجاً من رؤية الله وعدم ثبوته لها...."٤.


١ سورة الأنعام/ الآية ١٠٣.
٢ التفسير ٢/٤٤٧.
٣ سورة الأعراف/ الآية ١٤٣.
٤ التفسير ٣/٧٨، ٨٨.

<<  <   >  >>