وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُنَّ قُلْنَ: مَا نَرَى هَذَا إلَّا خَاصًّا لِسَالِمٍ، وَمَا نَدْرِي لَعَلَّهُ رُخْصَةٌ لِسَالِمٍ، فَإِذْ هُوَ ظَنٌّ بِلَا شَكٍّ، فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُعَارَضُ بِالسُّنَنِ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: ٣٦] .
وَشَتَّانَ بَيْنَ احْتِجَاجِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِاخْتِيَارِهَا وَبَيْنَ احْتِجَاجِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَقَوْلُهَا لَهَا: أَمَا لَك فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ وَسُكُوتُ أُمِّ سَلَمَةَ يُنْبِئُ بِرُجُوعِهَا إلَى الْحَقِّ عَنْ احْتِيَاطِهَا.
وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَنَا هَاهُنَا يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ، وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرْضَعْنَ الْكَبِيرَ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَكَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ خَاصَّةً.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِنَسْخِ التَّبَنِّي.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي نَصٍّ ثَابِتٍ: هَذَا مَنْسُوخٌ، إلَّا بِنَصٍّ ثَابِتٍ مُبَيَّنٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، فَكَيْفَ وَقَوْلُ سَهْلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ بَيَانٌ جَلِيٌّ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ وَبِالْيَقِينِ نَدْرِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَاصَّةً لِسَالِمٍ، أَوْ فِي التَّبَنِّي الَّذِي نُسِخَ لَبَيَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا بَيَّنَ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي الْجَذَعَةِ إذْ قَالَ لَهُ تُجْزِئُك وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَك.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى فِيمَا يُطْلِقُ بِهِ لِسَانَهُ: كَيْفَ يَحِلُّ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَرْضِعَ ثَدْيَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا اعْتِرَاضٌ مُجَرَّدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي أَمَرَ بِذَلِكَ، وَالْقَائِلُ بِهَذَا لَا يَسْتَحْيِ مِنْ أَنْ يُطْلِقَ: أَنَّ لِلْمَمْلُوكَةِ أَنْ تُصَلِّيَ عُرْيَانَةً يَرَى النَّاسُ ثَدْيَيْهَا وَخَاصِرَتَهَا، وَأَنَّ لِلْحُرَّةِ أَنْ تَتَعَمَّدَ أَنْ تَكْشِفَ مِنْ شَفَتَيْ فَرْجِهَا مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ تُصَلِّي كَذَلِكَ وَيَرَاهَا الصَّادِرُ وَالْوَارِدُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تَكْشِفَ أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ بَطْنِهَا كَذَلِكَ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْحَيَاءِ وَقِلَّةِ الدِّينِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» حُجَّةٌ لَنَا بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فِي طَرْدِ الْمَجَاعَةِ نَحْوَ مَا لِلصَّغِيرِ، فَهُوَ عُمُومٌ لِكُلِّ رَضَاعٍ إذَا بَلَغَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute