للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب الوديعة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويسن قبول وديعة لمن يعلم من نفسه الأمانة، ويلزم حفظها في حرز مثلها، وإن عينه ربها فأحرز بدونه أو تعدى أو فرط أو قطع علف دابة عنها بغير قول ضمن، ويقبل قول مودع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه لا وارثه، وفي تلفها وعدم تفريط وتعد وفي الإذن، وإن أودع اثنان مكيلاً أو موزوناً يقسم، فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو امتناعه سلم إليه، ولمودع ومضارب ومرتهن ومستأجر إن غصبت العين المطالبة بها.

فصل: ومن أحيا أرضاً منفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم ملكها، ويحصل بحوزها بحائط منيع، أو إجراء ماء لا تزرع إلا به إن قطع ماء لا تزرع معه، أو حفر بئر أو غرس شجر فيها، ومن سبق إلى طريق واسع فهو أحق بالجلوس فيه ما بقي متاعه ما لم يضر.

فصل: ويجوز جعل شيء معلوم لمن يعمل عملاً ولو مجهولاً، كرد عبد، ولقطة، وبناء حائط، فمن فعله بعد علمه استحقه، ولكل فسخها، فمن عامل لا شيء له، ومن جاعل لعامل أجرة عمله، وإن عمل غير معدٍ لأخذ أجرة لغيره عملاً بلا جَعْلٍ أو معدٍ بلا إذن فلا شيء له إلا في تحصيل متاع في بحر أو فلاة، فله أجر مثله، وفي رقيق دينار أو اثنا عشر درهماً.

فصل: واللقطة ثلاثة أقسام: ما لا تتبعه همة أوساط الناس كرغيف وشسع، فيملك بلا تعريف.

الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كخيل، وإبل، وبقر، فيحرم التقاطها، ولا تملك بتعريفها.

الثالث: باقي الأموال، كثمن، ومتاع، وغنم، وفصلان، وعجاجيل، فلمن أَمِنَ من نفسه عليها أخذها، ويجب حفظها وتعريفها في مجامع الناس غير المساجد حولاً كاملاً، وتملك بعده حكماً، ويحرم تصرفه فيها قبل معرفة وعائها ووكائها وعفاصها، وقدرها وجنسها وصفتها، ومتى جاء ربها فوصفها لزم دفعها إليه، ومن أخذ نعله ونحوه ووجد غيره مكانه فلقطة.

واللقيط: طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل إلى التمييز، والتقاطه فرض كفاية، فإن لم يكن معه شيء وتعذر بيت المال أنفق عليه عالم به بلا رجوع، وهو مسلم إن وجد في بلد يكثر فيه المسلمون، وإن ادعى أجنبي رقه وهو بيده صدق، وإن أقر به من يمكن كونه منه ألحق به] .

الوديعة هي: الأمانة التي تودع عند إنسان ليحفظها، وهي مشتقة من ودع الشيء إذا تركه؛ لأنها متروكة عند المودع، (ودعه) أي: تركه، وقرأ بعض القراء قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:٣] أي: ما تركك.

ثم يسن أن يقبلها، إذا جاء إنسان يودع عندك وديعة دراهم أو أكياساً أو أقمشة يريد أن تحفظها حتى يحتاجها، أو أطعمة أو مواشي وأنت تعلم من نفسك الأمانة فإنك تحفظها، سواءً بأجرة أو تبرعاً، والمتبرع له أجر؛ لأنه داخل في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:٢] ، فمن وثق من نفسه بالأمانة، فإنه يحفظها في حرز مثلها.

قوله: (يلزم حفظها في حرز مثلها) ، أي: ما تحرز فيه، ومعلوم أنها إذا كانت جواهر أو حلياً أو نقوداً أنها تحفظ في الصناديق التي يقفل عليها، ما يسمى الآن بالتجوري أو ما أشبه.

يعني: أنه يقفل عليها ويحفظها؛ لأنها تتبعها الهمم، وربما تناولها الجهلة والسفهاء ونحوهم وعبثوا بها.

وقوله: (وإن عينه ربها فأحرز بدونه) فإنه يضمن، فإذا قال: احفظها في جيبك، فحفظها في كمه أو في يده، فإن اليد أقل حفظاً وحرزاً من الجيب، فيضمن والحال هذه؛ لأنه تساهل، وإذا قال: احفظها في الصندوق، فحفظها مثلاً في رف أو روزنة، فإنه يضمن؛ وذلك لأن هذا أقل حفظاً لها.

وإذا كانت غنماً وقال: احفظها في الزريبة، فتركها في الطريق فافتلتت ضمنها؛ لتساهله في حفظها، وكذلك إذا قال: احفظ هذه الأكياس في المستودع، فتركها خارج المستودع في داخل السور أو نحوه فإنه يضمن، ويلزمه أن يحرزها في حفظ مثلها.

وكذلك يضمن إذا تعدى أو فرط، فالتعدي: الاستعمال، فإذا لبس الثوب أو فتق الختم أو الحزام، أو حل حزام السمن فاهراق، أو حزام الكيس فعبثت به دابة أو طفل، فيعتبر متعدياً.

وكذلك: إذا فرط، فأهملها كأن ترك الباب مفتوحاً فدخل الأطفال فعبثوا بها أو أخرجوها، أو أهمل الدابة في الطريق فظلت، وكذا لو قطع العلف إذا كانت دابة فإنها لا تعيش إلا بالعلف، فإذا قطع العلف عن الشاة مثلاً، أو عن البقرة، أو البعير ضمن؛ لأنها لا بد لها من طعام، وينفق عليها مما أعطاه صاحبها، وصاحبها عادة قد يعطيه نفقة، وقد يقول له: خذ هذه النفقة، هذه مائة ريال أنفق عليها منها، وقد يقول له: انفق عليها واحبسها وأنا أعطيك ما خسرته.

أما لو رخص له صاحبها فقال: لا تنفق عليها بل اتركها تأكل بنفسها، تأكل من الحشيش ونحوه، فتركها فهزلت أو ماتت فإنه لا يضمن.

وكذا إذا قال له صاحبها: لا تطعم الدابة ولا تسقها، ولكن لا شك أنه يأثم إذا رآها تموت جوعاً أو ظمأً، فإن من رآها، ولو كان أجنبياً عليه أن يعلفها ويزيل عنها الظمأ ونحوه، ولو لم تكن مملوكة له، بل لو لم تكن مملوكة أصلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها -يعني: خفها- فنزلت في البئر وسقته، فغفر الله لها، قالوا: وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) .

قوله: (ويقبل قول مودع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه لا وارثه) .

المودع: الموكل على حفظها.

فإذا قال: رددتها إليك، أو وكلتني أن أردها إلى فلان، فرددتها بأمرك، وأنكر صاحبها، فالقول قول المودع؛ لأنه أمين فلا يضمن.

قوله: (لا وارثه) : أي: وارث المودع؛ وذلك لأنه إذا مات المودع، وجاء وارثه، وقال: إن أبي قد ردها عليك، فلا يقبل إلا ببينة؛ لأنك ما ائتمنته إنما ائتمنت أباه أو مورثه.

قوله: (وفي تلفها وعدم تفريط وتعد وفي الإذن) : أي: يقبل قوله في تلفها وعدم تفريط وتعدٍ وفي الأذن، فإذا قال: ماتت الشاة حتف أنفها، أو احترق الثوب، أو سرق المتاع، أو تآكل الجلد أو الثوب.

أي: أكله العث، أو نحو ذلك؛ فإنه يقبل قوله؛ لأنه مأمون موثوق.

ويقبل قوله في عدم التفريط، فإذا قال صاحبها: إنك فرطت وأهملت الشاة حتى افترست، فادعى أنه ما أهمل، فالقول قوله.

وكذلك: لو ادعى أنك تعديت، فلبست الثوب أو فككت حزام الدراهم، أو حزام الطعام، أو الدهن حتى اهراق، أو أخرجته حتى تسلط عليه الأطفال، أو الطير، أو الدواب؛ فأنكر المودع فإن القول قوله، أنه ما تعدى ولا فرط.

وكذلك في الإذن، إذا قال: أذنت لي أن أستعمله، أذنت لي أن أقترض من الدراهم، أذنت لي أن أتصدق منها، أو أذنت لي أن أعطيها لفلان فإنه يقبل قوله فيه.

قوله: (وإن أودع اثنان مكيلاً أو موزوناً يقسم فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو امتناعه سلم إليه) : صورة ذلك: إذا أودعك اثنان كيس بر، أو أرز، أو سمن، أو تمر، وقالا: هذا بيننا نصفين أي: كل منهما له نصف، فجاء أحدهما وقال: أنا محتاج، وشريكي في هذا الظرف غائب، فأعطني نصيبي، فلك أن تعطيه؛ لأنه طلب حقه.

وكذلك لو كان شريكه حاضراً ولكن امتنع، وقال: لا حاجة لي الآن في هذا الكيس، لست بحاجة إلى هذا الأرز ولا إلى هذا السمن، فإنه يعطى صاحبه وشريكه نصيبه، ويقسم نصفين بالمكيال أو بالميزان، ثم يعطى نصيبه.

المكيل: مثل الأدهان والألبان، وكذلك الحبوب والثمار، فهذه تقدم أنها مكيلة، والموزون: إذا كان بينهما مثلاً: قطن أو صوف -يعني شيء يوزن- فيقسم بينهما ويعطى هذا نصيبه، ويبقى نصيب الآخر حتى يأتي.

قوله: (ولمودع ومضارب ومرتهن ومستأجر إن غصبت العين المطالبة بها) أي: إذا غصبت العين المودعة، كما لو أودع عندك إنسان كتاباً وغصبه واحد، فإن لك حقاً أن تطالب به، فإذا قال: الكتاب ليس لك، أو الكيس ليس لك، أو البعير ليس لك، فقل: إنه أمانة عندي، صاحبه أودعه عندي فأنا وكيل على أن أحفظه، فلك أن تطالب الغاصب حتى تسترجعه.

وكذلك: المضارب: إذا أعطاك إنسان عشرين ألفاً وقال: اتجر فيها والربح بيننا، فتسمى هذه مضاربة وتسمى قراضاً، فأنت منك العمل وهو منه المال، فلو غصبت هذه العشرون الألف فإنك تطالب الغاصب؛ لأنها أمانة عندك، فتطالب الغاصب حتى يعيد إليك ما أخذه من هذا المال الذي هو وديعة عندك، ولك فيه حق وهو بعض الربح، ولصاحبه حق، فأنت الموكل.

كذلك المرتهن: إذا رهن عندك إنسان شاة أو كيساً أو سيفاً، ثم غصبه غاصب، فإنك تطالبه أنت أيها المرتهن، ولو كان غير ملكك، ولو كان ذلك الغاصب قريباً للمالك، ولو قال: هذا البعير بعير أخي فإنا أحق به، أو بعير ابن عمي، أو كيس جاري وقريبي فغصبه منك بغير حق، فإنك تطالبه؛ لأنه وديعة عندك.

وثانياً: أنه وثيقة قبضته وأمسكته حتى يحل دينك وتبيعه إذا لم يوفك الراهن.

وكذلك المستأجر: له أيضاً: مطالبة الغاصب، أياً كانت العين المؤجرة، فلو أنك استأجرت بيتاً، فجاء إنسان فغصبك وأخرجك، فإنك تطالبه.

أو استأجرت كتاباً فغصب منك، فلك المطالبة، ولو لم يكن الكتاب لك.

أو مثلاً: استأجرت سيارة تركبها فغصبت منك، أو بعيراً تركبه، أو بقرة تحلبها، فالغاصب يطالبه المغصوب منه إذا كانت مستأجرة عنده؛ لأنها أمانة عنده، والمال المضارب، والعين المرهونة، والعين المستأجرة كلها وديعة وكلها أمانة عند من هي في يده، فإذا غصبها غاصب فله مطالبة ذلك الغاصب.