للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أما سيره في الأدم، وهي الأدواي، فلعمري إنه لهم وبإرادتهم. وأما سيره في الغيم فلمُجريه ومنشئه سبحانه. لكنهم لولا أنهم أودعوه مَزادَهُم، وجعلوه زادهم، لم يكُ دَهره كله مسافراً، ولكان مسافراً في السحاب، وحالاً في التراب، فلما كان إدامة سفر الماء إنما هو بكونه في السحاب، وَتَزوُّد هؤلاء اياها، صار كأن كلا السَّيرينِ بملكهم.

وقيل؛ لما كان حَمله في المزاد نتيجة كونه في الغيم، جعلوا السبب والمسبب كالشيء الواحد. ومثله في القرآن والشعر والكلام كثير.

) تَبرىِ لهُن نعامُ الدو مُسرحيةً ... تُعارضُ الجُدلُ المُرخاةَ بالجمِ (

تَبرى: تُعارض. ونعام الدو: يعني به الخيل. وبقوله:) مُسرحية (: فصلها من النعام الوَحشي، لان نوع النعام لا يُسرج اذ لا يُركب. والجُدُل: جمع جَديل، وهو حبل مفتول من أدم، يكون في عُنف الناقة والبعير.

يقول: فإبلُنا طوال العناق كخيلنا، فأعناقها تُعارض أعناق الخيل، وأقام الجُدل واللجم مُقام الأعناق، لان فيها دليلا عليها، إذ لا يكون إلا هناك. وما احسن ذكر اللُّجم مع قوله:) مُسرحيةً (.

) تبدو لنا كُلما ألقوا عمائمهُم ... عمائم خثلقتْ سُوداً بلا لُثمِ (

يصف غلمانه، ويذكرهم بالمروءة. يقول: كلما سَفروا عمائمهم بدت لنا عمائم سُود، يعني لمهم، واثبت العمائم لهم، لان العمائم على الهام، وشعور المُرد انما هي هناك. ونفي اللثُم عن عمائمهم التي عنى بها الشعر، لان اللثام ما سال على الخد من العمامة. وهؤلاء مُردٌ لا شعور في خدودهم، فتص شعور رؤسهم فلذلك جعل اللمم عمائم) بشعور رؤسهم (دون لثم، وهذا مليح جداً.

) ناشُوا الرماح وكانتْ غير ناطقةٍ ... فعلمُوها صياحَ الطيرِ في البُهَمِ (

النوش: التناول.) باتت تنوشُ الخوض نوشاً من علاَ (.

وفي التنزيل:) وأني لهم التنَاوُشُ (اي التناول للنجاة، والبُهم: الشجعان، واحدهم بُهمة. يقول: تناولوا الرماح وهي خُرسٌ في حال تناولهم إياها، فدقوها في الأبطال، حتى صاحت صياح الطير، فحكى بذلك نغمة انكسارها في المطعون بها، كقول الآخر:

تصيحُ الرُّدينيات فينا وفيهمُ ... صِياحَ بناتِ الماء أصبحن جُوعا

وقوله:) وكانت غير ناطفة، فعلموها صياح الطير (: يشعر أنها ناطقة إذا صاحت. وهذا مقطع شعري، لان الصياح ليس بمنطق. وإنما المنطق عبارة عن النطق المتصور في النفس، وهي الفكرة الباعثة على المنطق.

فإما قوله تعالى:) عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ (فإنما ذلك على أن الله تعالى قد جعل للطير ما تعبر به عن ذواتها، إلا أن ذلك لا يتأدى إلينا نحن، وإنما خُص لفهمه سليمان صلى الله على محمد وعليه، وذلك انه فهم من نَغم الطيور ما نفهمه نحن في هذا النوع الإنساني بالمنطق.

) مَنِ اقتضى بسضوى الهندِى حَاجتهَ ... أجابَ كل سُؤالٍ عن هلِ بلمِِ (

اي من اقتضى حاجته أوسألها من غير أن يُعمل لإدراكها سيفاً او رمحاً، لم تُقض له. فكلما قيل له: هل قضيت حاجتك او أدركتها، كان جوابه لم أقض ولم أدرك، وإنما يدرك حاجته من اقتضاها بالسيف والرمح. وجعل) هل (، و) لم (اسمين للحرفين، فصرفهما، لأنها على شكل فمٍ ودم. إن شئت قلت: اراد) لَمْ (بسكون الميم، ثم تصور الوصل فالتقى له ساكنان، فحرك الميم لالتقاء الساكنين، وكان يجب أن يقول: أجاب كل سؤال بهل، لان السؤال ليس عن هل، إنما المبحوث بهل عن غيرها، كقولك: هل في العالم خسوف قمر، فالسؤال إنما وقع عن الخسوف القمري بهل، لا عن هل وهي عند أصحاب المنطق أول منازل البحوث، لأنها إنما يُسأل بها عن الآنية لكن لما كانت هل منتظمة للقضية المسئول بها عنها وكانت تلك يتعدى السؤال إليها بعن، استجاز أن يجعل السؤال عن) هل (اضطراراً.

وإن شئت قلت: أبدل) عَنْ (مكان الباء، لان حروف الجر يبدل بعضها من بعض كثيراً. وحسن له ذلك، انه لو أسعده الوزن فقال:) بَهلٍ بلمِ (توالت الباء في الحرفين. فهذا ما يعتذر له به.

وخص الهدي، وهو السيف، بتبليغ الأمل دون الرمح، لان العمل بالسيف أدل على الاجتهاد، وأوصل إلى المراد، كقوله هو:

ومن طلبَ النصرَ العلى فإنما ... مفاتيحه البيضُ الخفاف الصوارمُ

) صُنا قوائمها عنهُم فَ ... ما وقَعَتْ

مَوِاقع اللُؤم في الأيدي ولا الكَرم (

<<  <   >  >>