ولجرير في هجاء الفرزدق:
تَسيلُ علَيهمُ شعُبُ المخازي ... وهمْ كانوا لسوأتها قَرارَ
وللفرزدق في هجاء جرير:
أنتمُ قَرارةُ كلّ معَدنِ سوْأةٍ ... ولكلّ سائلةٍ تسيلُ قَرارُ
وقد أخذاه جميعاً من أعشى باهلة في هجاء الرقاد بن عمرو الجعدي:
بنوُ حصْنٍ قرَارةُ كلّ لؤمٍ ... كذاكَ لكلّ سائلةٍ قرارُ
وأخذ الفرزدق قوله:
جرْدَ القيادِ وفي الطرَادِ كأنهاّ ... عقبانُ يوْمِ تغَيمٍ وطلالِ
وأخذ قوله:
وذاتِ حليلٍ أنكحَتْها رِماحُنا ... حَلالاً لمنْ يبَني بها لم تطَلقِ
من سُليك بن السلكة في قوله:
وكَمْ أيمٍ قد أنكَحَتهْا رِماحُنا ... وأخرى على عمّ وخالٍ تلهفُ
ثم قال: وهذا نبذ يسير من شيء كثير لا يأتي عليه الجمع والاستقصاء، فضلاً عما تساعد به القريحة ويميله الحفظ للمذاكرة. فاشرأب الوزير إلى كلامه، وأصغت الجماعة إلى قوله: وأظهرت استحساناً لا يستحقه ما أتى به. فقلت له: أما قولك إن المعنى يعتلج في الصدر فيخطر للمتقدم تارة وللمتأخر أخرى، وإن الألفاظ مشتركة، فليس الأمر كما تخيلته، ولا الكلام كلهّ مشترك، ولا أن الأول ليس بأولى به من الآخر. ولو كان كذلك لسقطت فضيلة السابق، ولبطلت مهلة المتقدم ولما قدمت شعراء الجاهلية على شعراء الإسلام، وقدم الصدر الأول من الإسلاميين على الصدر الأول من المحدثين ... وإنما حكم لهم بالفضل، وسلم إليهم خصله من أجل ما ابتدعوه من المعاني، وسبقوا إليه من الاستعارات، وابتكروه من التشبيهات الواقعة والأمثال الشاردة، وذللوه من طرق الشعر الحزنة ولما تغايروا بالسرق والاجتلاب والنقل والاجتذاب. ألا ترى إلى قول قرادُ ابن حنش المري هاجياً بني عوف:
إذا ما انتَدوا أقعَوا بيوتهِم ... جُلوس إماء الحي حولُ المَجازر
وإن نَطقُوا قالوا بما قِيلَ قَبلَهُم ... وإنَ وَرَدوا حلو خلاِلَ الصوادِرِ
وعير جرير الفرزدق باجتلابه فقال:
ستعَلمُ مَن يكون أبُوه قَيناً ... ومنَ عُرفَت قَصائدُهُ اجتلابا
ولما قال كعبُ:
فمَن للقوافي شانها من يَحُوكُها ... إذا ما مضَىَ كعبُ وفوزَ جرولُ
أعترضه مزرد بن ضرار، وأخو الشماخ، فقال:
مررَت على كعب فخِلت أوبدِي ... أوابد تعَلوا فوقَ كعبٍ وجرول
فهَل خُضتَ بحراً قصر الناسُ دونه ... من الشعر أم هل قلتًَ ما لم تقُولِ
وقال ابن هرمة يذكر قوماً استرقوا شعره، واستعاروا معانيه:
أغذو تلاداً من الأشارِ أصلحها ... صلاحَ ذي الحزم للحاجات والرتلِ
احذو قصائدَ للراوينَ باقيةً ... كأنها بينهمَ موشيةُ الحُللِ
أما نسيباً وإما مدَحَ ذي فَخَرٍ ... يبقى وإما ادخاراً من ذوي خطَلِ
حتى إذا امتلأت أسماعهم عجبَاً ... واستوقفت في قلوب القوم كالعسلِ
أهووا إليها لغوصٍ في مسارحها ... لم يقرعوا أمهات الشول للحبلِ
فاستطلعوا عقلاً لا يعقلون بها ... وأوضعوا قعَد المجموع في الهملش
وما أشاركهم في طرقِ فحلِهم ... ولا بسهَلٍ أراعيهم ولا جَبلِ
ما إن أزال أرى وسَمي فأعرفه ... في ذود آخر موسوماً على قبلِ
وما وسَمتُ قلاِصاً وهيَ راتعَةُ ... حتى أتتُ رَغَم الاقيادِ والعُقَلِ
وما قولك: من هذا الذي من التباع والاحتذاء، وسلوك الطريق التي تقدم إليها غيره من الشعراء؛ فلعمري إن الأمر على ما ذكرته، إلا أنه لا يحمد من الكلام ما كان غاباً، ولا المعاني ما كان مكرراً مردداً. فلا يتسمح الشاعر بأن يكون جمهور شعره عند التصفح مسترقاً ملصقاً، ومجموعاً ملفقاً، ولا أن يكثر الاعتماد في شعره، ويتناصر السرق في كلامه. ومن السبيل المحتذي أن يأخذ المعنى دون اللفظ، ثم أن يطويه أن كان مكشوفاً، ويكشفه إن كان مستوراً، ويحسن العبارة عنه، ويختار الوزن العذب له، حتى يكون بالأسماع عبقاً وبالقلوب علقاً. ألا ترى إلى قول الأعشى:
وذَرْنا وقَوْماً إنْ همُ عَمدَوا لنا ... أبا ثابتٍ واقعُدْ فإنُكَ طاعمُ
فأخذه الحطيئة، فأحسن العبارة عنه، واستوفى المعنى فيه، فصار أحق به من المخترع له بقوله: