وإنِّي لأبكي اليومَ من حَذَري غَداً ... فِراقَكَ وَالحَيَّانِ مُختَلِفانِ
سِجالاً وَتَساكُباً وَسَحاً وَديمةً ... وَهَطْلاً وَتَهتاناً وَبالهَمَلانِ
وطرده البحتري على سبيل التورية إلى المدح فقال:
تَجودُ على الطُّلابِ سَحَّاً وَدِيمَةً ... وَهَطْلاً وَإرِْاماً وَوَبلاً وَرَيِّقَا
وأما في الاعتذار في الدمع فبشار ابتدع فيه وهو قوله:
يَقُلْنَ لَقَد بَكَيْت فقلتُ كلا ... وهل يبكي من الطَّرَبِ الجَليدُ
وَلكِني أصابَ سَوادَ عيني ... عُوَيْدُ قَذى لهُ طَرْفٌ حَديدُ
فَقالوا ما لِدَمْعِها سَواء ... أكِلْتى مُقلَتَيكِ أصابَ عُودُ
وتبعه أبو العتاهية وأحسن حيث يقول:
كَمْ مِن خَليلٍ لي أسا ... رِقُهُ البُكاءَ مِنَ الحَياءِ
فإذا تَأَمَّلَ لامَني ... فأقولُ ما بي من بُكاءِ
لَكِنْ ذَهَبْتُ لأرْتَدي ... فَطَرَفْتُ عَيني بالرِّدَاءِ
وقال المتنبي:
وَنَغبِطُ الأرضُ منها حيثُ حَلَّ بِهِ ... وَنَحْسُدُ الخَيْلُ منها أيَّها رَكِبا
قال أبو الفتح: إنما جعل الأرض تغبط والخيل تحسد لأن الأرض وإن كثرت بقاعها فهي كالمكان الواحد لاتصال بعضها ببعض والخيل ليست كذلك لأنها متفرقة فاستعمل للأرض لفظ الغبطة وللخيل لفظ الحسد لأنه أقبح.
قال أبو القاسم: أما الفرق بين الغبطة والحسد فقد فرّق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:) المؤمن يغبط والمنافق يحسد (والعرب تقول: غبطت الرجل إذا تمنيت مثل حاله مع بقائها له، وحسدته إذا تمنيت زوال حاله إليك.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم هل يضر الغبط فقال:) كما يضر العضاة الخبط (معناه أن الإنسان إذا رأى نعمة بغيره لا يدخل التمني ولا يستفتح بابه وإنما يسترزق الله من فضله العميم.
ومعنى بيت المتنبي أن الأرض كل بقعة منها يتمنى أن يكون يحل بها لفضله وكرمه، وإذا ركب من الخيل ما ركب فكل فرس يتمنى أن يزول عن ظهره إليه. وقال الحسن بن هانئ في الأمين:
مَنِ الجآذِرُ في زِي الأعاريبِ ... حُمْرُ الحُلي والمطايا والجلابيبِ
قال أبو الفتح: جعل كونهن جآذر حقيقة وجعل كونهن أعاريب مجازاً وذلك للمبالغة في الصنعة.
قال أبو القاسم: ليس للمجاز والحقيقة محل في هذا البيت ولا مدخل وإنما جعلهن جآذر لنجل العيون وحورهن وهن في الخلقة نساء.
قال أبو الفتح: حُمر الحلي أي هن شراف وكذلك الجلابيب.
قال أبو القاسم: ليس هذا بشيء إنما المعنى أنهن حسان يلبسن حسان الملابس استضافة جمال إلى جمال. وروى الأصمعي في كتاب الأجناس أن العرب تقول: إن الخمار الأسود يشب لون المرأة أي ينوره ويجلوه وكلما ازدادت الظلمة سواداً ازدادت الأنوار ضياءً، والعرب تقول: الحُسن أحمر ومنه قول بشار:
وَخُذي مَلابِسَ زِينَةٍ ... وَمُصبَّغاتٍ هُنَّ أَنْوَرُ
فإذا دَخَلنا فادخُلي ... في الحُمْرِ إنَّ الحُسْنَ أحمرُ
وقد ذكر ابن الرومي هذا البيت في قوله:
قُلْ للمليحةِ في الخِمارِ المُذَهَّبِ ... أفْسَدْتِ نُسْكَ أخي التَّقيّ المُترَهَّبِ
وَجَمعتِ بينَ المُذْهَبَينِ فَلَمْ يكُن ... للحُسْنِ في ذَهَبَيْهِما مِن مَذْهَبِ
والعلماء يقولون في قولهم: الحسن أحمر مجهاً آخر وهو أنه يُخاض فيه الشدائد حتى إن الدم يُراق فيه كما يقولون: الموت أحمر وهو الذي يراق فيه الدم.
قال المتنبي:
أُغالِبُ فيكَ الشوقَ والشوقُ أغلبُ ... وأعجَبُ من ذا الهَجْرِ والوَصْلُ أعجَبُ
قال أبو الفتح: أغلب أي أغلب مني ويجوز أن يكون أغلب أي غليظ العنق من القلب فيرجع إلى الأول. والقول الأول على كل حال أشبه.
والوصل أعجب لأن من عادتها أن تهجر فقد صار الهجر هو المعهود.
قال الشيخ: معنى البيت أني أغالب الشوق بالصبر وهو غالبني بسلطانه وأعجب من وصلك لي خيالاً بالليل، وهجرك صباحاً أعجب. وهذا معنى قول البحتري:
وَلَمْ نَرى مِثْلَيْنَا وَلاَ مثلَ حالِنا ... نُعَذَّبُ أَيقَاظاً وَنَنْعَمُ هُجَّدا
وقد تقدمه قيس بن الخطيم في معناه حيث يقول:
مَا تَمْنَعي يَقظي فَقَد تَوَلَّيتَهُ ... في النَّومِ غَيرَ مُصَرَّدٍ مَحسوبِ
وقال المتنبي: