(أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الثَّنَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، بَلْ ذَلِكَ عَلَامَةُ كَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا ارْتِيَابَ أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ بَعْدَ ثَنَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حُكْمٌ عَقَّبَ وَصْفًا مُنَاسِبًا، وَهُوَ يُشْعِرُ بِالْعِلْيَةِ، وَكَذَا الْوَصْفُ بِقَوْلِهِ: (أَنْتُمْ أَيْ: أَيُّهَا الصَّحَابَةُ، أَوْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ. (شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّشْرِيفِ، وَأَنَّهُمْ بِمَكَانٍ وَمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَيْضًا كَالتَّزْكِيَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ، وَإِظْهَارِ عَدَالَتِهِمْ بَعْدَ أَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ لِصَاحِبِ الْجَنَازَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ وَنَفْعٌ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ وَيُصَدِّقُ ظُنُونَهُمْ فِي حَقِّ الْمَثْنِيِّ عَلَيْهِ كَرَامَةً لَهُمْ، وَتَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ كَالدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ، فَيُوجِبُ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، فَهُوَ كَالْوَاجِبِ إِذَ لَا أَثَرَ لِلْعَمَلِ وَلَا الشَّهَادَةِ فِي الْوُجُوبِ، وَإِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ يَرْمُزُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: ١٤٣] أَيْ: جَعَلْنَاكُمْ عُدُولًا خِيَارَ الشُّهُودِ لِتَشْهَدُوا عَلَى غَيْرِكُمْ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ، وَمُزَكِّيًا لَكُمْ، وَيُبَيِّنَ عَدَالَتَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ لِشَهَادَتِهِمْ مَدْخَلًا فِي نَفْعِهِمْ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلثَّنَاءِ فَائِدَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «حِينَ أَثْنَوْا عَلَى جَنَازَةٍ جَاءَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ يُعْلِنُ كَذَا وَيُسِرُّ كَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَدَّقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ: وَغَفَرَ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُونَ» . قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا نَتِيجَةَ سِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِسَتْرِ الْمَعَاصِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غَالِبِيٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْطِقُ الْأَلْسِنَةَ فِي حَقِّ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ سَرِيرَتِهِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَلِذَا قِيلَ أَلْسِنَةُ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ خُلِقَ لِلْجَنَّةِ يَصِيرُ لِلنَّارِ بِقَوْلِهِمْ وَلَا عَكْسُهُ، إِذْ قَدْ يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّنَاءُ بِالْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ وَفِي بَاطِنِ الْأَمْرِ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَامَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ» . أَنَّ مَا يَقُولُ الصَّحَابَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ يَكُونُ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ لَا يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِمْ. بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا رَأَوْا مِنْهُ الصَّلَاحَ وَالْخَيْرَاتِ فِي حَيَاتِهِ، وَالْخَيْرَاتُ وَالصَّلَاحُ عَلَامَةُ كَوْنِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا رَأَوْا مِنْهُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، وَالشَّرُّ وَالْفَسَادُ مِنْ عَلَامَةِ النَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ بِكَوْنِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، بَلْ يُرْجَى لِمَنْ شُهِدَ لَهُ بِالْخَيْرِ، وَيُخَافُ النَّارُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالشَّرِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(وَفِي رِوَايَةٍ الْمُؤْمِنُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الصَّحَابَةُ فَيُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ وَالْخِطَابُ فِي أَنْتُمْ لِلْأُمَّةِ الْمَوْجُودِينَ أَوَّلًا، وَاللَّاحِقِينَ آخِرًا. (شُهَدَاءُ اللَّهِ الْإِضَافَةُ تَشْرِيفِيَّةٌ وَمُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ. (فِي الْأَرْضِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ فِي السَّمَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute