عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، أَقُولُ: فِيهِ أَبْحَاثٌ، أَمَّا أَوَّلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الدِّرَايَةُ تَابِعَةً لِلرِّوَايَةِ، فَتَخْطِئَةُ الْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَرْبَابِ الْعِنَايَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهٍ نَبِيهٍ وَتَوْجِيهٍ وَجِيهٍ بَعْدَ ثُبُوتِ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَبَدَائِعَ الْحِكَمِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَقَوْلُهُ: يُقَالُ مُزِجَتْ بِالْبَحْرِ لَا مُزِجَ بِهَا ; سَبَبُهُ أَنَّهُ يَنْسَبُ الْقَلِيلَ إِلَى الْكَثِيرِ لَا عَكْسُهُ عُرْفًا وَعَادَةً، وَإِنْ جَازَ لُغَةً فَإِنَّهُ يُقَالُ: اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَعَكْسُهُ تَفَاضُلًا وَتَسَاوِيًا، فَنَقُولُ: فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْكِ وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَقَلِيلَةً عِنْدَكَ، فَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ كَبِيرَةٌ وَكَثِيرَةٌ ; بِحَيْثُ لَوْ مُزِجَ بِهَا الْبَحْرُ بِأَجْنَاسِهَا وَأَصْنَافِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَوُسْعِهَا مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا وَعُمْقِهَا لَغَلَبَتْهُ، وَهَذَا مِنَ الْبَلَاغَةِ غَايَةُ مَبْلَغِهَا، وَفِي الْبَلِيغِ مِنَ الزَّجْرِ نِهَايَةُ حَدِّهَا وَمُنْتَهَاهَا، وَأَمَا ثَالِثًا: فَقَوْلُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: ٢٤] ، حَقُّ اللَّفْظِ فَاخْتَلَطَ نَبَاتُ الْأَرْضِ، خَطَأٌ فَاحِشٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ نَبَاتُ الْأَرْضِ، إِذْ لَيْسَ تَحْتَهُ طَائِلٌ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُخْتَلِطَ هُوَ بَعْضُ نَبَاتِ الْأَرْضِ بِبَعْضِهِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَطَرَ سَابَقٌ وُجُودَهُ عَلَى تَحَقُّقِ النَّبَاتِ عَلَى مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: ٢٤] الْآيَةُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُهُمَا؟ ، وَأَمَّا رَابِعًا فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، مَمْنُوعٌ وَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْعَرْضَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَرْبَابِ التَّمْيِيزِ، فَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ يُعْرَفُ أَنَّ الْكَلَامَ مَقْلُوبٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ بِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَابِلِيَّةَ الْخَلْطِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَعَلَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَرَادَ اخْتِلَاطَ أَثَرِ مَاءِ الْمَطَرِ بِمَا يُنْبِتُ بِهِ الْأَرْضَ مِنَ الْحَبَّةِ مَثَلًا، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَطْمَحُ نَظَرِهِ وَمَطْلَعُ فِكْرِهِ، لَكِنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: ٤٥] ، إِذْ تَعْقِيبِيَّةُ الْإِصْبَاحِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ حُصُولِ اخْتِلَاطِ النَّبَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ لَا حِينَ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْحَبِّ وَالنَّوَى، كَمَا لَا يَخْفَى، وَمِمَّا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى كَوْنِ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: ٩٩] ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْكَشَّافَ اخْتَارَ مَا اخْتَرْنَاهُ وَحَرَّرَ مَا حَرَّرْنَاهُ ; حَيْثُ قَالَ: فَالْتَفَّتْ بِسَبَبِهِ وَتَكَاثَفَ حَتَّى خَالَطَ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: تَجَمَّعَ فِي النَّبَاتِ الْمَاءُ فَاخْتَلَطَ بِهِ حَتَّى رُوِيَ وَرَفَّ رَفِيفًا، وَكَانَ حَقُّ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَاخْتَلَطَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَوَجْهُ صِحَّتِهِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُخْتَلِطَيْنِ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ. اهـ كَلَامُهُ. فَالِاعْتِرَاضُ يُحَوَّلُ إِلَى مَا قِيلَ، وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ تَحْرِيرِهِ وَتَوْجِيهِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ نَقْلَ الطِّيبِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْصِيرِهِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الدَّسِيسَةِ الِاعْتِزَالِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَحَقُّ اللَّفْظِ مَعَ سُوءِ الْأَدَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute