للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نَقَلَ الْبَغَوَيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِأَحَدِ الْمُكْثَيْنِ مُكْثٌ خَاصٌّ عَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ مُبَيَّنٍ عِنْدَ الْعَالِمِ بِهِ، (" يَوْمٌ) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ (كَسَنَةٍ) أَيْ: مِقْدَارَ عَامٍ فِي طُولِ الزَّمَانِ، أَوْ فِي كَثْرَةِ الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، (وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ") .

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ لِكَثْرَةِ غُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَشِدَّةِ بَلَاءِ اللَّعِينِ يُرَى لَهُمْ كَسَنَةٍ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَهُونُ كَيْدُهُ وَيَضْعُفُ أَمْرُهُ ; فَيُرَى كَشَهْرٍ، وَالثَّالِثُ يُرَى كَجُمُعَةٍ ; لِأَنَّ الْحَقَّ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَزِيدُ قَدْرًا، وَالْبَاطِلَ يَنْقُصُ حَتَّى يَنْمَحِقَ أَثَرًا، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّمَا اعْتَادُوا بِالْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ يَهُونُ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ تَضْمَحِلَّ شِدَّتُهَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا ذَكَرَ الرَّاوِي.

(قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ) أَيْ: مَثَلًا (أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ ") ، بَلْ هَذَا جَارٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَزِيدَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، حَتَّى يَصِيرَ مِقْدَارَ سَنَةٍ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، كَمَا يَزِيدُ فِي أَجْزَاءِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْيَوْمِ. انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَرَّرَهُ عَلَى الْمِنْوَالِ الَّذِي حَرَّرَهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا بَسْطَ الزَّمَانِ، كَمَا وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ مَعَ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَكَانِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ صَلَاةٍ إِنَّمَا هُوَ وَقْتُهُ الْمُقَدَّرُ مِنْ طُلُوعِ صُبْحٍ وَزَوَالِ شَمْسٍ وَغُرُوبِهَا وَغَيْبُوبَةِ شَفَقِهَا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ تَعَدُّدِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، فَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَنَّهُ يُشْكِلُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ مَعَ قَوْلِهِ: وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَأْوِيلِ امْتِدَادِ تِلْكَ الْأَيَّامِ عَلَى أَنَّهَا وُصِفَتْ بِالطُّولِ وَالِامْتِدَادِ ; لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَتَفَاقُمِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: " لَا ". الْحَدِيثَ.

فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ الْمَعُونَةُ فِي التَّحْقِيقِ: قَدْ تَبَيَّنَ لَنَا بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أَنَّ الدَّجَّالَ يُبْعَثُ مَعَهُ مِنَ الْمُشَبَّهَاتِ، وَيَفِيضُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ التَّمْوِيهَاتِ مَا يَسْلِبُ عَنْ ذَوِي الْعُقُولِ عُقُولَهُمْ، وَيَخْطِفُ مِنْ ذَوِي الْأَبْصَارِ أَبْصَارَهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ تَسْخِيرُ الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَمَجِيئُهُ بِجَنَّةٍ وَنَارٍ، وَإِحْيَاءُ الْمَيِّتِ عَلَى حَسَبِ مَا يَدَّعِيهِ، وَتَقْوِيَتُهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ إِضْلَالَهُ، تَارَةً بِالْمَطَرِ وَالْعُشْبِ، وَتَارَةً بِالْأَزْمَةِ وَالْجَدْبِ، ثُمَّ لَا خَفَاءَ بِأَنَّهُ أَسْحَرُ النَّاسِ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَنَا تَأْوِيلُ هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ يَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ النَّاسِ وَأَبْصَارِهِمْ، حَتَّى يُخَيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِسْفَارٍ بِلَا ظَلَامٍ، وَصَبَاحٍ بِلَا مَسَاءٍ، يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّيْلَ لَا يَمُدُّ عَلَيْهِمْ رِوَاقَهُ، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْوِي عَنْهُمْ ضِيَاءَهَا، فَيَبْقُونَ فِي حَيْرَةٍ وَالْتِبَاسٍ مِنِ امْتِدَادِ الزَّمَانِ، وَيُدْخِلَ عَلَيْهِمْ دَوَاخِلَ بِاخْتِفَاءِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا عِنْدَ مُصَادَمَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، وَيُقَدِّرُوا لِكُلِّ صَلَاةٍ قَدْرَهَا إِلَى أَنْ يَكْشِفَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ الْغُمَّةَ، هَذَا الَّذِي اهْتَدَيْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالُوا: هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ طَوِيلَةٌ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ".

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ " فَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ: هَذَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، شَرَعَهُ لَنَا صَاحِبُ الشَّرْعِ، قَالُوا: وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ، لَوُكِّلْنَا إِلَى اجْتِهَادِنَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْأَوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَمَعْنَاهُ: إِذَا بَعُدَ طُلُوعُ الْفَجْرِ قَدْرَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظُّهْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ; فَصَلُّوا الظُّهْرَ، ثُمَّ إِذَا مَضَى بَعْدَهُ قَدْرُ مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ ; فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَإِذَا مَضَى بَعْدَهَا قَدْرُ مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ ; فَصَلُّوا الْمَغْرِبَ، وَكَذَا الْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ، ثُمَّ الظَّهْرُ ثُمَّ الْعَصْرُ ثُمَّ الْمَغْرِبُ، وَكَذَا حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ صَلَاةُ السَّنَةِ فَرَائِضَ مُؤَدَّاةً فِي وَقْتِهَا، وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي كَشَهْرٍ، وَالثَّالِثُ الَّذِي كَجُمُعَةٍ، فَيُقَاسُ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>