للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِهِ الْمَوْقِفُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ (إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا) ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ وَتَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ، أَيْ: لَوْ كَانَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا مُضَارَّةٌ لَكَانَ فِي رُؤْيَتِهِ مُضَارَّةٌ، وَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ، وَتَحَقُّقِ الرُّؤْيَةِ مَعَ التَّنَزُّهِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ مِنْ نَحْوِ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ حَاصِلَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، عَلَى غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ وَنِهَايَةٍ مِنَ الْأَنْوَارِ، وَإِيمَاءٍ إِلَى تَفَاوُتِ التَّجَلِّي الرَّبَّانِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْرَارِ، (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أَيْ: نَادَى مُنَادٍ (لِيَتَّبِعْ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ، أَيْ: لِيَعْقُبَ (كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ) : بَيَانُ غَيْرِ اللَّهِ (وَالْأَنْصَابِ) : جَمْعُ نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الصَّادِ وَيُضَمَّانِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُنْصَبُ وَتُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَذْبَحُونَ عَلَيْهَا تَقَرُّبًا إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَكُلُّ مَا نُصِبَ وَاعْتُقِدَ تَعْظِيمُهُ مِنَ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ النَّصْبُ، (إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ) ; لِأَنَّ الْأَنْصَابَ وَالْأَصْنَامَ مُلْقَاةٌ فِيهَا (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ) أَيْ: وَحْدَهُ (مِنْ بَرٍّ) أَيْ: مُطِيعٍ صَالِحٍ (وَعَاصٍ) أَيْ: فَاجِرٍ فَاسِقٍ (أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: أَتَاهُمْ أَمْرُهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ) أَيِ: الرَّبُّ (فَمَاذَا تَنْظُرُونَ) ؟ أَيْ: تَنْتَظِرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْإِتْيَانِ عَنِ التَّجَلِّيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالتَّعْرِيفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، بَلْ قِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ، وَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ ; لِأَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ غَيْرِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْإِتْيَانِ، فَعَبَّرَ بِالْإِتْيَانِ عَنِ الرُّؤْيَةِ مَجَازًا، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ إِتْيَانًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِتْيَانُ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَشْبَهُ عِنْدِي بِالْحَدِيثِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ: يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْإِلَهِ لِيَخْتَبِرَهُمْ، فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الْمَلَكُ، أَوْ هَذِهِ الصُّورَةُ: أَنَا رَبُّكُمْ، وَرَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَةِ الْمَخْلُوقِ يُنْكِرُونَهُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّهُمْ، فَيَسْتَعِيذُونَ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ حَقِيقَةٌ غَيْرَ أَنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: كُنْهُ مَعْرِفَتِهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِتْيَانُ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ مُفَسَّرٌ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ، وَإِتْيَانِ بِأْسِهِ، وَلَفْظُ التَّنْزِيلِ مُحْتَمِلٌ لِكِلَا الْقَوْلَيْنِ، فَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ يُئَوَّلُ عَلَى إِتْيَانِ أَمْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَنَزَّهَ عَنْ تَأْوِيلِهِ خَشْيَةَ الْخَطَأِ، مَعَ تَمَسُّكِهِ بِعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَهِيَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الِاتِّصَافِ بِمَا تَتَحَدَّثُ بِهِ النُّفُوسُ مِنْ أَوْصَافِ الْخَالِقِ.

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْفُتُوحِ الْعِجْلِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقَاوِيلِ الْمَشْهُورَةِ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلِهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. قَالَ: إِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَخَرُّجٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّا نُنْكِرُ رُؤْيَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَلْ نُثْبِتُهَا، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنَّا نَدْفَعُ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، غَيْرَ أَنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ، وَلَا نَجْعَلُهُ حَرَكَةً وَانْتِقَالًا كَمَجِيءِ الْأَشْخَاصِ وَإِتْيَانِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ نُعُوتِ الْحَادِثِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي هِيَ ثَوَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَكَرَامَةٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، غَيْرُ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَقَامِهِمْ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ صُهَيْبٍ فِي الرُّؤْيَةِ يَعْنِي كَمَا سَيَجِيءُ فِي بَابِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَعَرُّضُهُمْ لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَيَقَعُ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَبَيْنَ مَنْ عَبَدَ الطَّوَاغِيتَ ; لِيَتَّبِعَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَعْبُودَهُ، وَلَيْسَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِحَانُ إِذْ ذَاكَ بَعْدُ قَائِمًا، وَحُكْمُهُ عَلَى الْخَلْقِ جَارِيًا حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الْحِسَابِ، وَيَقَعَ الْجَزَاءُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ إِذَا حَقَّتْ وَاسْتَقَرَّتِ الْحَقَائِقُ أَمْرُ الْعِبَادِ قَرَارُهَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: ٤٢] ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ( «إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ وَيَصِيرُ ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ طَبَقًا وَاحِدًا» ) . قَالَ: وَيُخَرَّجُ مَعْنَى إِتْيَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>