اللَّهِ فِي هَذَا إِيَّاهُمْ أَنَّهُ يُشْهِدُهُمْ رُؤْيَتَهُ لِيَتَيَقَّنُوهُ ; فَيَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا كَمَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا عِلْمًا وَاسْتِدْلَالًا، وَيَكُونُ طَرِيقُ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ إِتْيَانِ الْآتِي مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ أَيْ: قُلْنَا لَكُمْ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَبَعْضُكُمُ اتَّبَعَ مَا عَبَدَهُ، فَلِمَ أَنْتُمْ أَيْضًا لَا تَتْبَعُونَهُ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (يَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ) ، فَإِنَّ لَفْظَهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ (قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ) أَيِ: الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ نَعْبُدَ مَا سِوَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: مَا اتَّبَعْنَاهَا مَا دُمْنَا فِي الدُّنْيَا (أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي أَفْقَرِ أَكْوَانِنَا إِلَى النَّاسِ (وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ) أَيْ: فِي أَفْعَالِهِمْ، بَلْ قَاتَلْنَاهُمْ وَحَارَبْنَاهُمْ، وَعَادَيْنَاهُمْ وَقَاطَعْنَاهُمْ لِمَرْضَاتِكَ وَرَجَاءً لِتَجَلِّيَاتِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّا مَا اتَّبَعْنَاهُمْ حِينَئِذٍ وَالْأَمْرُ غَيْبٌ عَنَّا، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ نَتْبَعُهُمُ الْآنَ وَقْتَ الْعِيَانِ؟ إِنَّهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَفْقَرَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَارَقْنَا، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَجَأُوا إِلَيْهِ وَتَوَسَّلُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُشْعِرِ بِالْإِخْلَاصِ إِلَى الْخَلَاصِ، يَعْنِي: رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، الَّذِينَ زَاغُوا عَنْ طَاعَتِكَ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، وَمِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَكَذَا كَانَ دَأْبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقَاطِعُونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَآثَرُوا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute