يَجْزِي فِيهِ الِابْتِلَاءُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَئِنْ كَانَ مَعْنَى الْخَبَرِ هَذَا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ مَا أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مُمَاثَلَةٍ وَمُشَابَهَةٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا السُّجُودُ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: ٤٢] عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ مَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ خَاصٌّ بِالدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْمَوْقِفِ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَثَارِ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ يَمْتَحِنُ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ كَانَ مُخْلِصًا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى.
(ثُمَّ يُضْرَبُ) أَيْ: يُجْعَلُ وَيُمَدُّ (الْجِسْرُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجَسْرُ الَّذِي يُعْبَرُ عَلَيْهِ، وَيُكْسَرُ، وَالْمَعْنَى مَوْضِعُ الصِّرَاطِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ (عَلَى جَهَنَّمَ) أَيْ: مَتْنِهَا أَوْ وَسَطِهَا (وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ، أَيْ: تَقَعُ وَيُؤْذَنُ فِيهَا (فَيَقُولُونَ) أَيِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ ; بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ هَذَا، (اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) : تَكْرَارُهُ مَرَّتَيْنِ الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، أَوْ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ كَمَا هُوَ مِنْ آدَابِهِ، وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطَبٍ، أَيْ: يَقُولُ كُلُّ نَبِيٍّ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ أُمَّتِي مِنْ ضَرَرِ الصِّرَاطِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ سَالِمِينَ مِنْ آفَاتِهِ، آمِنِينَ مِنْ مَخَافَاتِهِ. (فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرَفِ الْعَيْنِ) ، وَفِي الْمَصَابِيحِ كَطَرْفَةِ الْعَيْنِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ: التَّاءُ لِلْوَحْدَةِ، يُقَالُ طَرَفَ طَرَفًا إِذَا أَطْبَقَ أَحَدَ جَفْنَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، (وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ) أَيْ: بِحَسَبِ مَقَامَاتِهِمْ، وَعَلَى قَدْرِ حَالَاتِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَذْبَةِ وَقُوَّةِ الطَّيَرَانِ وَسُرْعَةِ الْجَرَيَانِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ) : هِيَ جَمْعُ أَجْوَادٍ، وَهُوَ جَمْعُ جَوَادٍ، وَهُوَ الْفَارِسُ السَّابِقُ الْجَيِّدُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، فَجَوَادٌ نَعْتٌ مِنْ جَادَ إِذَا أَسْرَعَ فِي السَّيْرِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَقَوْلُهُ: (وَالرِّكَابِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ عَطْفٌ عَلَى الْخَيْلِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِبِلُ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، (فَنَاجٍ) : الْفَاءُ لِلتَّفْرِيغِ أَوِ التَّفْضِيلِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ، بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعَمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْمَعْنَى: فَمِنْهُمْ نَاجٍ (مُسَلَّمٌ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: يَنْجُو مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَنَالُهُ مَكْرُوهٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، (وَمَخْدُوشٌ) أَيْ: وَمِنْهُمْ مَجْرُوحٌ (مُرْسَلٌ) أَيْ: مُخَلَّصٌ. قَالَ شَارِحٌ: أَيِ الَّذِي يُخْدَشُ بِالْكَلُّوبِ فَيُرْسَلُ إِلَى النَّارِ مِنْ عُصَاةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: مُرْسَلٌ أَيْ مُطْلَقٌ مِنَ الْقَيْدِ وَالْغَلِّ بَعْدَ أَنْ عُذِّبُوا مُدَّةً، (وَمَكْدُوسٌ) : بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: وَمِنْهُمْ مَدْفُوعٌ (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) : يُقَالُ: كُدِسَ إِذَا دُفِعَ مِنْ وَرَائِهِ فَسَقَطَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ، الْمَقْضِيُّونَ بِالْخُلُودِ عَلَيْهِمْ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ) اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: (فَنَاجٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ (فَيَمُرُّ) لَا أَنَّهُ تَفْرِيعٌ لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمُ الْمُقَدَّرُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْمَارَّةِ عَلَى الْجِسْرِ، وَرُوِيَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ كَدَشَهُ إِذَا سَاقَهُ سَوْقًا شَدِيدًا، وَخَدَشَهُ وَجَرَحَهُ وَطَرَدَهُ، وَرُوِيَ مَكْدُوشٌ أَيْ مُلْقًى فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَكْدُوسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، قَالَ: وَرَوَاهُ الْعُذْرِيُّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَبِالْمُهْمَلَةِ كَوْنُ الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا رَاكِبَةً عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ تَكَدَّسَتِ الدَّوَابُّ فِي سَيْرِهَا إِذَا رَكِبَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَفِي النِّهَايَةِ: مَكْدُوسٌ فِي النَّارِ أَيْ: جُمِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَسَّمَ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: قِسْمٌ مُسَلَّمٌ فَلَا يَنَالُهُ شَيْءٌ أَصْلًا، وَقِسْمٌ يُخْدَشُ ثُمَّ يُرْسَلُ فَيَخْلُصُ، وَقِسْمٌ يُكَرْدَسُ وَيُلْقَى فَيَسْقُطُ فِي جَهَنَّمَ، وَخَدَشَ الْجِلْدَ قَشَّرَهُ بِعُودٍ، (حَتَّى إِذَا خَلَصَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ نَجَا (الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ وُقُوعِهِمْ فِيهَا، فَحَتَّى: غَايَةٌ لِمُرُورِ الْبَعْضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute