للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَلَمْ يَبْقَ) أَيْ: أَحَدٌ مِمَّنْ يَرْحَمُ عَلَى أَحَدٍ (إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أَيِ: الَّذِي رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنَّ رَحْمَةَ كُلِّ أَحَدٍ فِي جَنْبِ أَثَرِ رَحْمَتِهِ كَلَا شَيْءٍ، (فَيَقْبِضُ قَبْضَةً) أَيْ: مَا يَسَعُ الْكَفَّ (مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ أَهْلِهَا (فَيُخْرِجُ) أَيِ: اللَّهُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْقَبْضَةِ (قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ خَيْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هُمُ الَّذِينَ مَعَهُمْ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِمْ بِالشَّفَاعَةِ، وَتَفَرَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ مَا تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا حَضَرَ لَهُ الْقَلْبُ بِالرَّحْمَةِ وَصَحِبَتْهُ نِيَّةٌ، وَعَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قُلْتُ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي أَنْوَارِهِ وَثَمَرَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيقَانِ، وَدَقَائِقِ الْعِرْفَانِ، وَمَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ، وَمَنَازِلِ الْعِرْفَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَدْ عَادُوا) : الْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: صَارُوا (حُمَمًا) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ حُمَمَةٍ، وَهِيَ الْفَحْمُ (فَيُلْقِيهِمْ) أَيْ: يَأْمُرُ اللَّهُ بِإِلْقَائِهِمْ، أَوْ يُلْقِيهِمْ بِلَا وَاسِطَةٍ (فِي نَهَرٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: جَدْوَلِ مَاءٍ كَائِنٍ (فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ) أَيْ: فِي أَوَائِلِهَا، وَهُوَ جَمْعُ فُوَّهَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ جَمْعٌ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَأَفْوَاهُ الْأَزِقَّةِ وَالْأَنْهَارِ أَوَائِلُهَا كَذَا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَفْوَاهُ كِنَايَةً عَنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِدُخُولِهِمْ إِيَّاهَا عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَةِ. (يُقَالُ لَهُ) أَيْ: لِذَلِكَ النَّهْرِ (نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ) أَيْ: مِنَ النَّهْرِ (كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ فَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: مَحْمُولِهِ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ جَامِعٌ لِحُبُوبِ الْبُقُولِ الَّتِي تَنْتَشِرُ إِذَا هَاجَتْ، ثُمَّ إِذَا مُطِرَتْ مِنْ قَابِلٍ نَبَتَتْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ حَبُّ الرَّيَاحِينِ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَنَحْوُهَا فَهِيَ الْحَبُّ لَا غَيْرُ، وَالْحَبَّةُ مِنَ الْحَبِّ فَبِالْفَتْحِ، وَحَمِيلُ السَّيْلِ هُوَ مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ غُثَاءٍ أَوْ طِينٍ، فَإِذَا اتَّفَقَ فِيهِ الْحِبَّةُ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى شَطِّ مَجْرَى السَّيْلِ تَنْبُتُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَهِيَ أَسْرَعُ نَابِتَةٍ نَبَاتًا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا شَبَّهَهُمْ بِهَا لِسُرْعَةِ نَبَاتِهَا وَحُسْنِهَا وَطَرَاوَتِهَا انْتَهَى، فَالتَّشْبِيهُ فِي سُرْعَةِ الظُّهُورِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ بَذْرُ الصَّحْرَاءِ مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ بَذْرُ الصَّحْرَاءِ وَالْجَمِيعُ: حُبَبٌ، وَأَمَّا الْحَبَّةُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ مَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَالْجَمْعُ حُبُوبٌ.

(يَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ) ، فِي الْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ، (فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ) : جَمْعُ الْخَاتَمِ وَالْجَمْعُ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عَلَامَةٌ تَظْهَرُ فِي رِقَابِهِمْ ; لِيَكُونُوا مُتَمَيِّزِينَ مِنَ الْمَغْفُورِينَ بِوَاسِطَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الْمُرَادُ بِالْخَوَاتِمِ هُنَا أَشْيَاءُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ غَيْرِهِ تُعَلَّقُ فِي أَعْنَاقِهِمْ يُعْرَفُونَ بِهَا، (فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ) أَيْ: حِينَ رَأَوْهُمْ وَظَهَرَ لَهُمْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ (هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمْ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ) أَيْ: عَمِلُوهُ، عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَلَا خَيْرٍ) أَيْ: مِنْ عَمَلٍ بَاطِنٍ (قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ) : الْخِطَابُ لِلْعُتَقَاءِ أَيْ لَكُمْ (مَا رَأَيْتُمْ) أَيْ: مِقْدَارَ مَدِّ بَصَرِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) ، أَوْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ مِمَّا جَاءَ فِي نَظَرِكُمْ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْقُصُورِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ: فَيَنْظُرُونَ فِي الْجَنَّةِ إِلَى أَشْيَاءَ يَنْتَهِي مَدُّ بَصَرِهِمْ إِلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. أَقُولُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٤٦] أَيْ: جَنَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَنَّةٌ بَاطِنَةٌ، أَوْ جَنَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَدْلِ وَجَنَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>