الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ التَّقْرِيبُ مِقْدَارَ رَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَجَرٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: بِمِقْدَارِ ذَلِكَ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ كَانَ الْمُقَدَّسَةُ تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَرَاضِي الشَّامِ (رَمْيَةً بِحَجَرٍ) . أَيْ كَرَمْيَةِ حَجَرٍ، وَالْمُرَادُ السُّرْعَةُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّيْهِ، فَأَرَادَ التَّقْرِيبَ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ، وَلَوْ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ مِنْ مَوْضِعِ دُعَائِهِ، أَوْ مِنْ مَحَلٍّ مَطْلُوبٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا سُؤَالُهُ الْإِدْنَاءَ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَدْفُونِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاءَ وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْسَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، فَيُفْتَنَ بِهِ النَّاسُ.
قُلْتُ: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا إِذْ لَمْ يَقَعِ التَّفَتُّنُ بِقَبْرِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ إِمْكَانِ الْفِتْنَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْبَرَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قُرْبَ الْقَرْيَةِ لَا دَاخِلَهَا، وَلَعَلَّ عِمَارَةَ بُيُوتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ حِينَئِذٍ قَرِيبَةً إِلَى مَحَلِّ تُرْبَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى كُلٍّ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ، وَالْمَوَاطِنِ الْمُبَارَكَةِ، وَالْقُرْبِ مِنْ مَدَافِنَ أَرْبَابِ الدِّيَانَةِ.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ ") أَيْ: عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَنِّي عِنْدَ مُوسَى (لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ) أَيْ: طَرِيقِ الْجَادَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى حَوَالَيْهِ (عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) . أَيْ التَّلِّ الْمُسْتَطِيلِ الْمُجْتَمِعِ مِنَ الرَّمْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ هَذَا الْحَدِيثَ قَالُوا: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْءُ عَيْنِ مَلَكِ الْمَوْتِ؟ وَأَحَالُوا عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ امْتِحَانًا بِالْمَلْطُومِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ، وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا يُرِيدُ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، يُقَالُ: فَقَأَ فَلَانٌ عَيْنَ فُلَانٍ إِذَا غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ. قَالَ: وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ رَدَّ حُجَّتِهِ كَانَ بَعِيدًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَفَعَهُ عَنْهَا، فَأَدَّتِ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَمَا قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ، وَهَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. قَالُوا: وَأَتَاهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَاسْتَسْلَمَ لَهُ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي (شَرْحِ الْمَشَارِقِ) ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَدَرَ مِنْ مُوسَى هَذَا الْفِعْلُ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ يُفَوَّضُ عَلَمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَ نَفْسَهُ فَدَفَعَهُ عَنْهَا فَأَدَّتْ مُدَافَعَتُهُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَهَذَا مُخْتَارُ الْمَازِرِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ، وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ الشَّارِحُ يَعْنِي الْأَكْمَلَ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالْمُحَارَبَةِ حَتَّى يَدْفَعَهُ عَنْهُ، بَلْ دَعَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَبِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ صَالِحٍ مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ فَمَا ظَنُّكَ بِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَأَقُولُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي طَبْعِهِ حِدَّةٌ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا غَضِبَ اسْتَعْلَتْ قَلَنْسُوَتُهُ فَإِذَا هَجَمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ إِلَى الْهَلَاكِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَرْبِ، فَدَفَعَهُ قَبْلَ قَصْدِهِ، وَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، أَوْ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَعَمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ حِينَ ادَّعَى قَبَضَ رُوحِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّ بَشَرًا لَا يَقْبِضُ الرُّوحَ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ فَلَطَمَهُ، وَكَانَ هَذَا الْغَضَبُ لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا، وَلِهَذَا لَمْ يُعَاقِبِ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَخَذَ رَأْسَ هَارُونَ وَلِحْيَتَهُ، وَكَانَ يَجُرُّهُ مَعَ أَنَّ هَارُونَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَأَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حَقُّ كَبِيرِ الْأُخْوَةِ عَلَيْهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» ". قُلْتُ: هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِزَعْمِهِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute