للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي إبْطَال حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ بِالْكِتَابِ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى الْمَيْتَةُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَيْسَ بِمَيْتَةٍ بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ مُحَرَّمًا سِوَى الْمَذْكُورِ وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ عَلَى مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ وَإِنَّمَا نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ قَطْعًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ ﷿ مِنْ هَذَا النَّهْيِ فَهُوَ حَقٌّ لَكِنَّا نَمْتَنِعُ عَنْ أَكْلِهِ احْتِيَاطًا وَهُوَ تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ.

(وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ احْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً حَالَةَ الْعَمْدِ فَكَذَا حَالَةَ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَالْحَظْرَ كَالْخَطَأِ حَتَّى كَانَ النَّاسِي وَالْخَاطِئُ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَقْلًا وَلِهَذَا اسْتَوَى الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ فِي تَرْكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عِنْدَكُمْ كَذَا هَهُنَا.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.

وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ قَالَ ﷿ ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ١٢١] أَيْ: تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ فِسْقٌ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَكُونُ فِسْقًا وَكَذَا كُلُّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْفِسْقِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَفِيهَا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا سَهْوًا، وَالثَّانِي: أَنَّ النَّاسِيَ لَمْ يَتْرُكْ التَّسْمِيَةَ بَلْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ﷿ وَالذِّكْرُ قَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [الكهف: ٢٨] وَالنَّاسِي ذَاكِرٌ بِقَلْبِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ : اسْمُ اللَّهِ ﷿ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ فَلْيَأْكُلْ.

وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إنَّ الْمُسْلِمَ ذَكَرَ اللَّهَ فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ: كَمَا لَا يَنْفَعُ الِاسْمُ فِي الشِّرْكِ لَا يَضُرُّ النِّسْيَانُ فِي الْإِسْلَامِ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: فِي الْمُسْلِمِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ فَكُلْ وَإِذَا ذَبَحَ الْمَجُوسِيُّ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَطْعَمْهُ، وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ سُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ عِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ ذَاكِرٌ فَكَانَتْ ذَبِيحَتُهُ مَذْكُورَ التَّسْمِيَةِ فَلَا تَتَنَاوَلُهَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النِّسْيَانَ لَا يَدْفَعُ التَّكْلِيفَ وَلَا يَدْفَعُ الْحَظْرَ حَتَّى لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى مَا ضُرِبَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ فَنَقُولُ: النِّسْيَانُ جُعِلَ عُذْرًا مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ فِعْلًا يُعْذَرُ فِي تَرْكِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ سَهْوًا؛ لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عَنْ الْعَادَةِ الَّتِي هِيَ طَبِيعَةٌ خَامِسَةٌ خَطْبٌ صَعْبٌ وَأَمْرٌ أَمَرُّ فَيَكُونُ النِّسْيَانُ فِيهِ غَالِبَ الْوُجُودِ فَلَوْ لَمْ يُعْذَرْ لَلَحِقَهُ الْحَرَجُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ مِثَالُهُ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ الصَّائِمِ سَهْوًا جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ عَوَّدَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَوِّدْهَا ضِدَّهُ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْمُصَلِّي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ ذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَلْ فِي وَقْتٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ خُصُوصًا فِي حَالِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُخَالِفُ أَوْقَاتَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَكَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهَا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا.

وَالْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ عَادَةً فَكَانَ النِّسْيَانُ فِيهَا نَادِرًا فَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا وَكَذَلِكَ تَرْكُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ سَهْوًا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ بِهَا وَتَرْكُهَا سَهْوًا عِنْدَ تَصْمِيمِ الْعَزْمِ عَلَى الشُّرُوعِ فِيهَا مِمَّا يَنْدُرُ فَلَمْ يُعْذَرْ، وَكَذَا تَرْكُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ سَهْوًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَى اسْتِعْدَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِهَا عَادَةً فَالشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ سَهْوًا يَكُونُ نَادِرًا فَلَا يُعْذَرُ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، فَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرٌ لَمْ يُعَوِّدْهُ الذَّابِحُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ يَكُونُ مِنْ الْقَصَّابِينَ وَمِنْ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يُعَوِّدُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ﷿ فَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ مِنْهُمْ سَهْوًا لَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ بَلْ يَغْلِبُ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَاَللَّهُ هُوَ الْمُوَفِّقُ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ حَالَةَ الذِّكْرِ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ رُكْنِ التَّسْمِيَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ وَقْتِ التَّسْمِيَةِ.

أَمَّا رُكْنُهَا فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ ﷿ أَيِّ اسْمٍ كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>