للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّعْلِيمَ هُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَلَيْنَا الصَّيْدَ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ يُقَرِّرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ أَكْلَ صَيْدِ الْمُعَلَّمِ مِنْ الْجَوَارِحِ الْمُمْسِكِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ حَدِّ التَّعْلِيمِ وَكَانَ مَا أَكَلَ مِنْهُ حَلَالًا لَاسْتَوَى فِيهِ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ وَالْمُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهِ وَعَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَلْبٍ يَطْلُبُ الصَّيْدَ وَيُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَمُوتَ إنْ أَرْسَلْتَ عَلَيْهِ وَأَغْرَيْتَهُ إلَّا الْمُعَلَّمَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَقَالَ : يَحِلُّ لَكُمْ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مِمَّا عَلَّمْتُمُوهُنَّ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازٍ وَذَكَرْتُمْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ قُلْت: فَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ : إذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْت إنْ خَالَطَ كِلَابَنَا كِلَابٌ أُخْرَى؟ قَالَ : إنْ خَالَطَتْ كِلَابَكَ كِلَابٌ أُخْرَى فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ إنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَلَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ وَإِذَا أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَهُ وَالصَّقْرَ لَا، وَعَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَلَا تَأْكُلْ وَاضْرِبْهُ

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ وَقَتْلَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا الْكَلْبُ آلَةُ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ إذَا أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ لَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لِنَفْسِهِ يَكُونُ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَالْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ مِنْهُ وَهُوَ حَدُّ التَّعْلِيمِ، وَالثَّانِي أَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ هُوَ تَبْدِيلُ طَبْعِهِ وَفِطَامِهِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِإِمْسَاكِ الصَّيْدِ لِصَاحِبِهِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ وَنَحْوَهُ مِنْ السِّبَاعِ مِنْ طِبَاعِهِمْ أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الصَّيْدَ فَإِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى أَنْ لَا يَتَنَاوَلُوا مِنْهُ فَإِذَا أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الصَّيْدَ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ دَلَّ أَنَّهُ تَرَكَ عَادَتَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ دَلَّ أَنَّهُ عَلَى عَادَتِهِ سَوَاءٌ اتَّبَعَ الصَّيْدَ إذَا أُغْرِيَ وَاسْتَجَابَ إذَا دُعِيَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَلُوفٌ فِي الْأَصْلِ يُجِيبُ إذَا دُعِيَ وَيَتَّبِعُ إذَا أُغْرِيَ فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَعَلُّمِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيمِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَا قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ.

ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَوْقِيتَ فِي تَعْلِيمِهِ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ صَيْدًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ هَلْ يَصِيرُ مُعَلَّمًا أَمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّكْرَارِ، وَكَانَ يَقُولُ: إذَا كَانَ مُعَلَّمًا فَكُلْ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَهَكَذَا رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ مَا حَدُّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ؟ قَالَ: أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَأْكُلُ مَا يَصِيدُ أَوَّلًا وَلَا الثَّانِيَ وَلَوْ أَكَلَ الثَّالِثَ وَمَا بَعْدَهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَاهُ بِالثَّلَاثِ فَقَالَا: إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ صَادَ ثَانِيًا فَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ صَادَ ثَالِثًا فَلَمْ يَأْكُلْ فَهَذَا مُعَلَّمٌ.

فَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ إنَّمَا رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الصِّنَاعَةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ حَالَ الْكَلْبِ فِي الْإِمْسَاكِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ يَخْتَلِفُ فَقَدْ يُمْسِكُ لِلتَّعْلِيمِ وَقَدْ يُمْسِكُ لِلشِّبَعِ فَفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ أَصْلَ التَّكْرَارِ دَلَالَةَ التَّعَلُّمِ؛ لِأَنَّ الشِّبَعَ لَا يَتَّفِقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَدَلَّ تَكْرَارُ التَّرْكِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَا التَّكْرَارَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ لِمَا أَنَّ الثَّلَاثَ مَوْضُوعَةٌ لِإِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ أَصْلُهُ قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ حَيْثُ قَالَ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ [الكهف: ٧٦] وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرْبَحْ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إذَا صَارَ مُعَلَّمًا فِي الظَّاهِرِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ وَصَادَ بِهِ صَاحِبُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا صَادَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُؤْكَلُ شَيْءٌ مِنْهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّهُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنْ أَكَلَ الْكَلْبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ التَّعَلُّمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّعَلُّمِ لِفَرْطِ الْجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّمَ قَدْ يَنْسَى فَلَا يَحْرُمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّيُودِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَامَةَ التَّعَلُّمِ لَمَّا كَانَتْ تَرْكَ الْأَكْلِ فَإِذَا أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا وَأَنَّ إمْسَاكَهُ لَمْ يَكُنْ لِصَيْرُورَتِهِ مُعَلَّمًا بَلْ

<<  <  ج: ص:  >  >>