أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّهُ إذَا قَلَعَ الْبَاقِي كَانَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ رَدَّ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْكُلَّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إذَا قَلَعَ شَيْئًا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْبَاقِي فِي عِظَمِهِ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَازِمٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا قَلَعَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْبَاقِي كَانَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ فَكَأَنَّهُ قَلَعَ الْكُلَّ، وَرَضِيَ بِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى صُبْرَةً فَرَأَى ظَاهِرَهَا، يَسْقُطُ خِيَارُهُ كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ مِنْهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَقِيَّةِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ وَسَائِرَ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَلَوْ قَطَعَ الْمُشْتَرِي الْكُلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقَّصَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْمُو فِي الْأَرْضِ وَيَزِيدُ، وَلَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَبَعْدَ الْقَلْعِ لَا يَنْمُو، وَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَانْتِقَاصُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صُنْعِهِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى، وَكَذَا إذَا قَلَعَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ نَقَّصَ بَعْضَ الْمَبِيعِ، وَانْتِقَاصُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ يَمْنَعُ رَدَّ الْبَاقِي فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى، وَإِنْ قَلَعَ كُلَّهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ قَلَعَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرْخِيُّ هَذَا الْفَصْلَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَسْقُطُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَلَعَ الْبَعْضَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ قَلَعَ الْبَائِعُ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ الْمُغَيَّبُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ بَعْدَ الْقَلْعِ فَقَلَعَ قَدْرَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَرَضِيَ بِهِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِبَعْضِ الْمَكِيلِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ رِضًا بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِهِ تُعَرِّفُ حَالَ الْبَاقِي إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْلُوعُ قَلِيلًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ فَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ قَلْعَهُ وَالتَّرْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْلَعْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا كَالسَّلْقِ، وَالْفُجْلِ، وَنَحْوِهَا فَقَلَعَ بَعْضًا مِنْهُ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ مِنْهُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ، فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْقَلْعِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: إنِّي أَخَافُ إنْ قَلَعْتُهُ لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الرَّدِّ، وَقَالَ الْبَائِعُ: إنِّي أَخَافُ إنْ قَلَعْتُهُ لَا تَرْضَى بِهِ فَمَنْ تَطَوَّعَ مِنْهُمَا بِالْقَلْعِ جَازَ، وَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى ذَلِكَ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَشَاحَّا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِجْبَارِ لِمَا فِي الْإِجْبَارِ مِنْ الْإِضْرَارِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيُفْسَخُ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ.
فَأَمَّا الْأَعْمَى إذَا اشْتَرَى شَيْئًا، وَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنَّ خِيَارَهُ يَسْقُطُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لَكِنْ بَعْدَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ الْجَسُّ فِيمَا يُجَسُّ، وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ، وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ، وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ كَالدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ، وَنَحْوِهَا إذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ عَلَى مَا وُصِفَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: يُوَكِّلُ بَصِيرًا بِالرُّؤْيَةِ، وَتَكُونُ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ قَائِمَةً مَقَامَ رُؤْيَتِهِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ الْمَبِيعِ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ يُوصَفُ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ، وَلَوْ وَصَفَ لَهُ فَرَضِيَ بِهِ ثُمَّ أَبْصَرَ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي حَقِّهِ كَالْخَلْفِ عَنْ الرُّؤْيَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْخَلْف كَمَنْ صَلَّى بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْبَصِيرُ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ حَتَّى ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ثُمَّ عَمِيَ فَهَذَا وَالْأَعْمَى عِنْدَ الشِّرَاءِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ أَعْمَى، فَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْعُمْيَانِ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ.
فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي.
بَيَانِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيُّ، وَضَرُورِيٌّ، فَالِاخْتِيَارِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ نَقَضْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، وَالضَّرُورِيُّ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ.
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا سَقَطَ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنُ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ تَضَمَّنَ بِأَنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَصِحَّ، وَكَذَا إذَا رَدَّ الْبَعْضَ، وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَكَانَ هَذَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ