دون موضوع، وكان بعض الحاضرين في هذه المجالس يدوّن كلامه، وما يلقي فيه من إفادات، فطبع كلامه هذا باسم "الملفوظات" في أكثر من عشرين مجلّدا، وتشتمل هذه "الملفوظات" على نوادر من علم وحكمة، ولطائف وظرائف، وقصص وأخبار، وموعظة، وعبرة، وإصلاح، وإرشاد، وأدب وخلق، ونقد، ورد، وقد جرّب علماء هذه الديار بأن لها أثرا بالغا في تكوين المذاق الدينيّ السليم والتشجيع على الأعمال الصالحة.
بيعته رحمه الله في السلوك
قد شهدت التجربة أن مجرّد غزارة العلم وسعة المطالعة لا يكفي في تربية الإنسان تربية دينية قويمة، فإن إصلاح النفوس وتزكية القلوب وتقويم الملكات وتعديل الأخلاق لا يكاد يتحصّل لرجل، إلا بأن يتأسّى في حياته أسوة رجل من رجال الله، ويتمتّع بملازمته وصحبته، ويستفيد من تعاليمه وتربيته، ويجلب إلى نفسه تلك المواهب العالية، وذلك المذاق السليم الذي وفّق له ذلك الرجل، ولذلك فسّر سبحانه "الصراط المستقيم" بقوله: "صراط الذين أنعمت عليهم" إشارة إلى أن الصراط المستقيم إنما هو صراط مشى عليه الذين أنعم الله عليهم، من النبيين، والصدّيقين والشهداء والصالحين.
وفسّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، بقوله:"ما أنا عليه وأصحابي"، وقال تعالى:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، دلالة على أن الصراط المستقيم المطلوب إنما يهتدي إليه الرجل باتّباع من ينيب إلى الله، وملازمة الصادقين الذين هذّبت نفوسهم واعتدلت عواطفهم النفسية، ولذلك قد استمرّت عادة العلماء منذ عهد الصحابة والتابعين أنهم لا يكتفون بمجرّد مطالعة الكتب وحفظ الأحاديث وتلقّي الدروس، وإنما يهتمّون بملازمة رجال الله والاستفادة من صحبتهم وخدمتهم.