للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فنظر إلي في ثبات وغاب في تفكير عميق، وبعد برهة تكلم ثانية ولقد كانت كلماته بالعربية واضحة ترن كأنها أجراس الفضة فألقى إلي لسانه النبوي الذي حمل أوامر الله فملأ صدري وقلبي بحمل ثقيل {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} (١) {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (٢) {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} (٣) {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (٤)

غمغمت في ألم. . . " أنا لا أستطيع أن أنام. أنا لا أستطيع أن أفهم الأسرار التي غلفت بحجب كثيفة، وصحت من أعماقي. . . يا محمد يا رسول الله خذ بيدي " واندفعت من حلقي شهقة عنيفة متقطعة - لقد كنت ثقل ثقل كابوس شديد - كنت أخشى غضب الرسول الكريم وعندئذ شعرت كما لو كنت قد غبت في الأعماق وفجأة صحوت كانت عروق صدغي تنبض بالألم، وكان جسدي يسبح في عرق كثيف، وكانت كل أطرافي تئن من الألم، ولفني سكون الموتى وشعرت أني حزين ووحيد.

وشهد يوم الجمعة التالي منظرا غريبا في مسجد الجمعة الكبير في دلهي. كان رجل أجنبي أصفر الشعر شاحب الوجه يشق طريقه مصحوبا ببعض كبار العلماء - كان يشق طريقه خلال الجمع الحاشد من المؤمنين - كنت أرتدي رداءا هنديا وغطاء رأس هندي، وعلقت على صدري الأوسمة التي منحنيها السلاطين الأتراك، وحلق في المؤمنون بدهشة واستغراب شديدين، وشقت مجموعتنا الصغيرة الطريق مباشرة إلى المنبر الذي كان يحوطه كبار العلماء الأجلاء الذين استقبلوني بعطف شديد وسلام عال، وجلست بجوار المنبر وتركت عيناي تتجولان في قبلة المسجد الجملية الزخرفة، وفي وسط الباحة كانت ضبابير النحل البرية قد بنت بيوتها وكانت تطير دون أن يزعجها أحد حولنا.

وفجأة تلي الآذان ونقل المكبرون الواقفون في أماكن مختلفة من المسجد - نقلوا الآذان إلى كل ركن بعيد من أركان المسجد وقام ما يقرب من أربعة آلاف من الرجال كالجنود عند سماعهم هذا النداء السماوي تجمعوا واقفين في صفوف منتظمة وأدوا الصلاة في خشوع عميق وكنت واحدا منهم وكانت لحظة جليلة وبعد أن ألقيت الخطبة أخذني الشيخ عبد الحي من يدي وقادني على درجات المنبر وبدأ الحشد الكبير من الناس يتحرك - آلاف من العمائم البيضاء كانت أشبه بحقل من الورود البيضاء يتطلعون مهمهمين إلي، وأحاطني العلماء الكبار ذوو اللحى الرمادية الوقورة بعيون تفيض عطفا وتشجيعا، فأمدني عطفهم بثبات غير عادي ودون تشنج أو خوف صعدت ببطء إلى الدرجة السابعة من المنبر ومن فوق المنبر نظرت إلى هذا الجمع الحاشد الذي كان يموج تحتي كأنه بجر حي وهؤلاء الذين وقفوا بعد ذلك مادين أعناقهم نحوي، الشيء الذي جعل الممر كله حركة ما شاء الله، صاح واحد من الواقفين حولي وصافحتني العيون كلها بحرارة ومودة.

أيها السادة الكرام - هكذا بدأت بالعربية - لقد حضرت من بلاد بعيدة لأحوز علما لا يتيسر لي في وطني، ولقد أتيت ملتمسا منكم الإلهام ولقد لبيتم ندائي وتابعت قولي فبدأت أتحدث عن الإسلام ودوره الذي أداه في تاريخ العالم، وعن المعجزة التي طوعها الله لرسوله وشرحت أسباب تأخر المسلمين المعاصرين وعن الأسباب التي


(١) سورة النبأ الآية ٦
(٢) سورة النبأ الآية ٧
(٣) سورة النبأ الآية ٨
(٤) سورة النبأ الآية ٩