للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا كان المراد ما ذكرناه من الأخبار عن الطلاق الرجعي، لم يدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الرجعي دون غيره.

فالجواب: أن هذا أمر أضمر في الكلام مع استقلاله دونه بغير دليل، لأنكم تضمرون الرجعي وتقولون: معناه الطلاق الرجعي مرتان، وإذا استقل الكلام دون ضمير لم يجز تعديه إلا بدليل.

وجواب ثان: وهو أنه لو أراد الإخبار عما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان، لأن ذلك يقتضي أنه الطلاق الرجعي أوقعهن مجتمعتين أو مفترقتين، فلما قال مرتان، ولا يكون ذلك إلا لإيقاع الطلاق مفترقا، ثبت أنه قصد الإخبار عن صفة إيقاعه، لا الإخبار عن عدد الرجعي منه.

فإن قالوا إن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تكرار الفعل، يدل على ذلك قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (١) ولم يرد تفريق الأجر وإنما أراد تضعيف العدد.

فالجواب: أن قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (٢) حقيقة فيما ذكرناه من تكرار الفعل دون العدد، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على فعل أو اسم يدل على ذلك أنك تقول: لقيت فلانا مرتين فيقتضي تكرار الفعل، وكذلك قوله: دخلت مصر مرتين، فإذا كان ذلك أصله وحقيقته، ودل الدليل في بعض المواضع على العدول به عن حقيقته واستعماله في غير ما وضع له، لم يجز حمله على ذلك في موضع آخر إلا بدليل.

وجواب آخر: وهو أن الفضل قال: معنى {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (٣) مرة بعد مرة في الجنة، فعلى هذا لم يخرج اللفظ عن بابه ولا عدل به عن حقيقته، وإن قلنا: إن معناه التضعيف في ماله وأجره: فالفرق بينهما أن قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (٤) يفيد التضعيف ويمنع الاقتصار على ضعف واحد ولو كان معنى قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (٥) يريد به التضعيف، لمنع من إيقاع طلقة واحدة، وإلا بطل معنى التضعيف، وهذا باطل باتفاقنا.

ودليلنا من جهة السنة ما روى مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقال: فعلته لاعبا ثم قال: «تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى (٦)» قام رجل فقال: "يا رسول الله ألا أقتله؟ ".

ودليلنا من جهة القياس أن هذا معنى ذو عدد يقتضي البينونة فوجب تحريمه كاللعان.

أما مذهب الحنابلة فقد قال ابن قدامة (٧) والرواية الثانية أن جمع الثلاث طلاق بدعة محرم، اختارها أبو بكر وأبو حفص، روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة.

قال علي رضي الله عنه لا يطلق أحد للسنة فيندم، وفي رواية قال: يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمن شاء راجعها، وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أتى برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا.


(١) سورة الأحزاب الآية ٣١
(٢) سورة الأحزاب الآية ٣١
(٣) سورة الأحزاب الآية ٣١
(٤) سورة الأحزاب الآية ٣١
(٥) سورة البقرة الآية ٢٢٩
(٦) سنن النسائي الطلاق (٣٤٠١).
(٧) المغني ومعه الشرح ٨/ ٢٤١.