إن مما لا جدال فيه أن مصدر التشريع في عصر النبوة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان موئل الاستفتاء والاستقصاء، فلما لحق بربه - عز وجل - وانقطع الوحي بذلك انقلبت قيادة الأمة في أمور الدنيا والدين إلى خلفائه الراشدين، وكبار الصحابة فاضطلعوا بهذه المهمة، ونهضوا بأعبائها على خير وجه، كيف لا وقد استفادوا من صحبته - صلى الله عليه وسلم - وعلوا بعد أن نهلوا من مجالستهم إياه سفرا وحضرا، سلما وحربا ما أكسبهم الذوق التشريعي السليم حين تعرض عليهم الحوادث، فيزنونها بميزان الشرع، ولهذا كان حكمهم أصح من أحكام غيرهم، ذلك بالإضافة إلى ما قد رباهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تربية تشريعية محكمة يشاهدونه وهو يجتهد في حادثة؛ لأنها تشتمل على وصف كذا، ويرون تطبيقه لأحكام القرآن في غير ما حادثة، والقرآن قد ينزل على سبب فيطبق على سببه وعلى غيره، كل ذلك أكسبهم هذا الذوق وصدق التقدير الشرعي فيما لم ينص على حكمه.
ولقد دفعتهم سرعة الأحداث ومجريات الأمور إلى ولوج باب الاجتهاد والتصدي للفتوى ببصيرتهم النافذة، فلم تمض لحظات على وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خطب أبو بكر في الناس يفتيهم في أمرهم، ويوضح لهم ما ينبغي أن تكون عليه الحال بعد أن اختلفت وجهات القوم وكاد يتفاقم الأمر فيما بين المسلمين فكان لكلامه بين الناس الواقع الجميل. وللفتاته على النفس برد وسلام ردهم إليه به من هويات كادت