ومن أئمة الشافعية، الذين لم يذكرهم ابن القيم -ولا ابن السبكي في نصه الآتي فيما بعد- الإمام عز الدين بن عبد السلام الذي ذهب بعيدًا في مخالفة النظرية الأشعرية، فقال:"ومعظم مصالح الدنيا ومفسادها معروف بالعقل. إذ لا يخفى على عاقل -قبل ورود الشرع- أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن. واتفاق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع، على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض وإن اختلف في ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان"١.
على أن إنكار ما في الأفعال من صلاح وفساد، ومن نفع وضرر، وأن العقول تدلك من ذلك الشيء الكثير، ليس فحسب خروجًا عن المعقول، وإنما هو تجاهل وتعطيل للدلالات الصريحة لكثير جدا من النصوص الشرعية.
فقد أمر القرآن الكريم بفعل الخير والصلاح والمعروف، ونهى عن الشر والفساد والمنكر، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والبغي، وأخبر أنه أحل الطيبات وحرم الخبائث.
فلولا أن لهذه المأمورات وهذه المنهيات معان يعرفها المخاطبون لما كان لمخاطبتهم بها فائدة. فمن يستطيع أن ينكر أن الناس كانوا يوم خوطبوا بها على إدراك واضح لمحتواها ومعناها؟ وأنهم خوطبوا على أساس ذلك الإدراك؟ بل إنهم كانوا يقدرونها قدرها. ولهذا عرفوا أن من يأمر بهذا الخير وبهذا الصلاح، وينهى عن هذا الشر وهذا الفساد، ولا يتجاوزهما، لا يمكن أن يكون كاذبًا، ومن هنا بادر عدد من فضلاء العرب إلى الإسلام لمجرد تقديرهم لما دعا إليه من حق وصلاح، وما نهى عنه من ضلال وفساد.
ومن ذلك ما رواه ابن ماجة عن علي رضي الله عنه، قال: أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، فخرج، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة
١ قواعد الأحكام، ١/ ٥-٦ وسيأتي تعقب الشاطبي لابن عبد السلام فيما قرره -في نص آخر غير هذا- من أن المصالح والمفاسد الدنيوية تعرف بالضرورات والتجارب والعادات.