للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن هؤلاء المستشرقين انتشرت حول الحديث دعاوى وشبهات كلها أو أكثرها يتصل بقضية الوضع والوضاعين. ونحن نعلم أن علماء الحديث كانوا أشد عناية بهذه المسألة، وأكثر بحثاً فيها، وتمحيصاً للأخبار من أجلها، وتأليفاً في الموضوعات والوضاعين، بما لم يدعوا معه مجالاً لقائل. فبحثوا أسباب الوضع التي كانت في الغالب سياسية أو عقدية دينية، وذكروا ما وجدوا منها له علاقة بعصبية الجنس والقبيلة، واللغة والبلد والإمام، أو كان مما افتتن به القصاصون والإخباريون، أو استزاد منه الوعاظ والدعاة قصد الترغيب أو الترهيب، أو كان له ارتباط واتصال بالخلافات الكلامية والمذهبية، أو كان الباعث عليه التقرب من الحكام والتزلف إليهم ابتغاء تحقيق أغراض دنيوية، أو سببه الإغراب في الرواية أو نحو ذلك. قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد، وقصد بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي. ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيراً من الأحاديث الموضوعة وبينوا وضعها، وأن رواتها غير موثوق بهم) . (١) كما وضعوا لعلم الحديث قواعد وأصولاً، وصنفوا التصانيف وكتب الرجال، وتكلموا عن التجريح والتعديل، ونوهوا بالإسناد وجعلوه من الدين. قال الشاطبي: (ولا يعنون بالإسناد (حدثني فلان عن فلان) مجرداً، بل يريدون من ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم، حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا متهم، إلا عمن تحصل الثقة بروايته؛ لأن روح المسالة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لنعتمد عليه في الشريعة ونسند إليه الأحكام) (٢) ولا خشية على الحديث بإذن الله من وضع الوضاعين لما قدمنا، ولما يشهد له قول الخليفة العباسي الرشيد، وقد أراد الفتك بأحد الزنادقة الذي قال له: (يا أمير المؤمنين، أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم! أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً! فقال له الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك! ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً) (٣) وإنما قام علماء السنة بهذا الدور الجليل ابتغاء تنقية الحديث، ودفع الزيف عنه، والاطمئنان إلى ما هو مثبت في الدواوين من الأحاديث الصحيحة للوثوق والاحتجاج به في الدين والعمل بموجبه.


(١) ابن أبي الحديد: ٢/١٣٤
(٢) الشاطبي. الاعتصام: ١/٢٢٥
(٣) الذهبي. التذكرة: ١/٢٧٣؛ ابن حجر. التهذيب: ١/٢٥٢؛ السيوطي. تاريخ الخلفاء: ١٩٤؛ علي القاري. الموضوعات الكبرى: ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>