للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وثالثاً: لا نسلم بأن غلاء الفلوس ورخصها تجاه الذهب والفضة لا تعكس التضخم كما نعرفه اليوم، ذلك أن الذهب والفضة لم يكونا في تلك العصور مجرد سلعة وإنما كانا نقوداً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن معظم نصوص الفقهاء في هذا الشأن كانت مطلقة غلت الفلوس أو رخصت، وغلت النقود أو رخصت، وفهم هذه العبارات المطلقة لا يخرج عن مفهوم التضخم، وهذا لا يمنع من وجود بعض عبارات لهم تمثل مقدار التغير السعري هذا، فتنسبه إلى الذهب أو الفضة، وقد كان المتعارف عليه عندهم أن النقود هي قيم الأموال، ولا تقوم هي بالأموال، وبالتالي لم يتأت لهم إمكانية القول بأن النقود غلت أو رخصت بالنسبة للقمح مثلاً، وقد تساءل ابن عابدين عند بحثه لهذه المسألة باستنكار كيف يمكن تقويم النقود؟ وذهب إلى عدم إمكانية ذلك. (١) ثم إن التاريخ يؤكد على وقوع التضخم الجامح عندما تغيرت أسعار الفلوس. (٢)

ورابعاً: من منظور تفرقة الفقهاء بين ما كانت خلقته نقداً وما اصطلح عليه الناس، وبين ما يروج ويتعامل به في كل البلاد وما لا يروج إلا في بلد معين. النقد الذي يروج في كل البلاد وهو بأصل خلقته نقد هو الذهب والفضة عند من قال بذلك من الفقهاء، وماعداه فهو نقود اصطلاحية، وهي تشمل الفلوس وهي تلك العملات المعدنية من غير الذهب والفضة التي كانت معروفة قديماً، كما تشمل أي شيء يصطلح عليه كنقد، (٣) ومن ذلك النقود الورقية المعروفة لنا اليوم. ومثلما قال الشيخ الكبير مصطفى الزرقا: (من ادعى انحصار النقود الاصطلاحية في الفلوس فعليه البيان) (٤) ومعنى ذلك كله أن ما لدينا من نقود يجري عليها ما سبق من أقوال للفقهاء، حتى بفرض قصر كلامهم على الفلوس، وعلينا هنا أن نزيل اشتباهاً ربما وقع فيه البعض، وهو أنه ليس معنى إلحاقنا نقودنا في هذه المسألة بالفلوس عدم جريان الربا فيها –كما زعم البعض أن الربا يجري فيها بالصفة الثمنية، وهي مع ذلك شبيهة بالفلوس من حيث الاصطلاح وعدم كون مادتها من ذهب أو فضة؛ أي عدم تناسب القيمة الغذائية السلعية، مع القيمة النقدية، وكونها تروج في بلد ولا تروج في أخرى، وكون قيمتها ذات قابلية عالية للتقلب، (٥) ولا أعلم أن هناك مانعاً شرعياً من القول بذلك.


(١) حاشية ابن عابدين ٤/٥٣٧
(٢) المقريزي: إغاثة الأمة؛ الأسدي: التيسير والاعتبار.
(٣) ابن الهمام: شرح فتح القدير، بيروت، دار صادر: ٥/٢٨٧
(٤) المدخل الفقهي العام، دار الفكر.
(٥) يتفق معنا في ذلك الدكتور رفيق المصري، الإسلام والنقود، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، (ص ٨٥ وما بعدها) وكذلك د. أحمد الحسني، مرجع سابق (ص ١٨٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>