هذه الحيلة من الحيل المذمومة ولكنها أول حيلة سجلها الفكر البشري في هذا الباب، ثم سجل الفكر الإسلامي حيلا أخرى كانت متقدمة جدا من حيث الزمن على ما يعرفه الغرب اليوم من خلال الصورية في الدراسات القانونية وتوجد تلك الحيل في قصة النبي سيدنا يوسف والنبي الكريم سيدنا موسى، والنبي سيدنا أيوب عليهم الصلاة والسلام.
فالحيل إذن والحالة هذه اتبعت في الطاعات والمعاملات، ومنها ما تقره الشريعة إذا لم يهدم نصا محكمًا، ولم يحلل حرامًا، وكان سيتوصل فاعله إلى عمل خير، أو درء مفسدة، لذا فإن كثيرا من أمهات الدراسات الإسلامية تضمنت صورا مختلفة من الحيل، فهذا الإمام البخاري خصص لها عدة أبواب في كتابه الجامع، ومثال ذلك الحديث الشريف ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) الحديث، ثم وردت حيل كثيرة تهم الزكاة والأنكحة والبيوع، والفرار من البلاء، واحتيال العامل ليهدي له، وغيرها كثيرا نصت عليها الأحاديث والآثار ظلت تتحرك في شتى المعاملات والعبادات، حتى أفردت كتب عدة للحيل، وهي مثلما سبق أن قلت حول الذرائع ما استخدم منها لتحقيق غرض مشروع يكون مباحًا، وما استعمل منها لتعطيل أحكام الله يكون مذمومًا.
فقد ثبت اتباع الحيل لتجنب الإنسان عقوبة أصبح لا مفر له منها، وقد عرف هذا المبدأ في قصة سيدنا أيوب مع زوجته عند قول الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) } [ص: ٤٣ ـ ٤٤] هذه الحيلة لم يرد نص بمنع استعمالها علينا نحن المسلمين.
ومن الحيل المباحة، قصة سيدنا بلال مع التمر الجيد الذي قدم به على النبي صلى الله عليه وسلم، لما قدم له تمرا جيدا فأكل منه واستحسنه، ثم لما قص عليه أنه أبدل مدين بمد نهاه عن ذلك وقال في الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم (بتمر برني) فقال له صلى الله عليه وسلم: " من أين هذا " أي التمر البرني قال بلال كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع واحد ليطعم النبي فقال النبي عليه الصلاة والسلام عند ذلك " أوه أوه عين الربا عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع بيعا آخر ثم اشتريه " رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.