للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومقتضى القاعدة الثانية: ألا يكلف غير المسلمين بما له صبغة تعبدية أو دينية في نظر الإسلام، مثل الجهاد والزكاة، وليس للحاكم المسلم أن يمنعهم مما أحله لهم دينهم – وقد حرمه الإسلام – مثل شرب الخمر وأكل الخنزير، ولا يتدخل القاضي المسلم فيما يعتقدون حله من أمور الزواج والطلاق والميراث والوصية وغير ذلك من الأحوال الشخصية. وفي ذلك: أرسل عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري،يسأله: لماذا نترك النصارى يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، ونترك المجوس يتزوجون بناتهم؟ فرد عليه الحسن: على هذا دفعوا الجزية، وعلى هذا أقرهم السلف، وإنما أنت متبع لا مبتدع (١)

وفي هذه الأحوال الشخصية، كان الذميون يلجئون إلى رؤساتهم الروحيين، يحتكمون إليهم فيما شجر بينهم، فكان هؤلاء الرؤساء يقومون بدور القضاة، وقد ألفوا كثيرًا من كتب القانون تتضمن الأحكام التي تتناسب ومعتقداتهم في مسائل الزواج والميراث وفي بعض المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم ولا تمس الدولة أو النظام العام، وفي الأندلس: كان النصارى يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، ولا يلجئون للقاضي المسلم إلا في مسائل القتل (٢) .

ويبدو أن هذه الأحكام الكنسية لم يكن لها قوة الإلزام إلا من الناحية الدينية، نلحظ ذلك في تحليل عبارات الفقهاء: (ولا يجوز أن يقلد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار، وقال أبو حنيفة: يجوز تقليده القضاء بين أهل دينه. هذا وإن كان عرف الولاة بتقليده جاريًا، فهو تقليد زعامة ورئاسة، وليس بتقليد حكم وقضاء، وإنما يلزمهم حكمه لالتزامهم له، لا للزومه لهم. ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به بينهم، وإذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ) (٣) .

ولنا أن نفهم من قوله: (وإنما يلزمهم حكمه لالتزامهم له، لا للزومه لهم) أن هذا يكون نوعًا من التحكيم، فيخضع للأحكام التي سبق إيرادها في المبحث الثالث.

يبقى بعد ذلك أن نعرض لحكم ما إذا ترافع غير المسلمين إلى محاكم إسلامية في الأمور التي يختصون بها. وقد ميز الفقهاء في هذه المسألة بين الذميين (رعايا الدولة الإسلامية) ، وبين المعاهدين (الأجانب الذين سمح لهم بالدخول مدة محددة) .


(١) محمد عطية خميس، المرجع السابق، ص ٥٢ والمراجع التي أشار إليها
(٢) يوسف القرضاوي، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة، ص ٤٠ – ٤٢ مع هـ، نقلًا عن: آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري.
(٣) الموردي، الأحكام السلطانية: ٦٥ / ٦٦

<<  <  ج: ص:  >  >>