للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نماذج مختارة من النوازل عند فقهاء المالكية

تطبيقات فقهية عامة لتحقيق المناط عند المالكية:

يضم هذا المبحث تطبيقات فقهية عامة لتحقيق المناط في نوازل وقعت بالفعل، وليست مفترضة الوقوع، فجاءت النوازل معروضة على المجتهد أو المفتي كما هي في الواقع، بكل ما يحف بها من عوارض وملابسات، مما اقتضى من المفتي تحقيق المناط فيها، قبل التصريح بالحكم، وقد تختلف في ذلك الأنظار بين مفت وآخر، فيختلف تبعاً لذلك الحكم.

والوقائع النازلة المعروضة في هذا المبحث يغلب عليها تحقيق المناط الخاص الملائم لمثلها، وهو من أدق وأصعب أنواع تحقيق المناط، لما يتطلبه من علم وبعد نظر عند المجتهد، حتى يصادف كل حكم شرعي محله من الوقائع عند التطبيق.

النازلة الأولى – المسح على العمامة:

سئل ابن رشد (١) من حاضرة مراكش عن رجل ضعيف الجسم والدماغ متى أراد المسح على رأسه في الوضوء يزيد مرضه، وأصابته نزلة شديدة كذلك أبداً، هل يكون فرضه المسح على العمامة أم لا؟ وهو مع ما هو سبيله من هذه الحال المذكورة، تنتابه نوب من أمراض تنضاف إلى الضعف المتقدم الذكر الذي لا ينفك عنه، فإذا أصابته النوب المذكورة لم يقدر على الوضوء بالماء وإن كان حاراً ويخاف من الهواء، هل يتيمم في هذه الحال الموصوفة ويكون فرضه فيها التيمم؟ أم كيف يفعل؟ وكيف لو أصاب أهله في هذه الحال، هل يتيمم لجنابته ما دام على هذه الحال ويجزئه ذلك؟ ومتى أصابته جنابة من مماسة أهله في الحال الأولى المتقدمة الذكر لا يقدر على غسل رأسه بالماء، وربما احتاج إلى الاغتسال من الوجه المذكور من الثلاثة الأشهر إلى الأربعة، أو أقل من ذلك أو أكثر لضعفه، فإن صب الماء على رأسه كان حاراً أو بارداً مرض أو خاف على نفسه، فهل يكون فرضه الغسل في هذه الحال؟ أو المسح على رأسه وغسل جسده بالماء؟ أو كيف يفعل؟ راجعنا على ذلك فصلاً مأجوراً إن شاء الله تعالى.

لقد رأى ابن رشد بعد تحقيق المناط الخاص في هذه النازلة؛ أنها لا تدخل تحت حكم نظائرها من رفع الحرج والمشقة عن المكلف، وإنما ينطبق عليها مناط الحكم العام من الوضوء والغسل، وذلك لأن كل ما رآه صاحب النازلة مبرراً للتخفيف عنه، لم يكن إلا من وسوسة الشيطان ليفسد عليه دينه. ولم يكن هذا الحكم إلا بعد النظر في الأعذار، هل هي نوع من أنواع الأعذار الموجبة للتخفيف والأخذ بالرخصة أم لا؟ فبعد تحقيق المناط في النوع، ظهر لابن رشد أن تلك الأعذار ليست داخلة تحت نوع الأعذار الموجبة للتخفيف، بدليل أن له القدرة على إصابة أهله، ومن كانت حاله كذلك لم يصل بعد ضعف جسده ودماغه إلى الحالة التي لا يقدر معها على المسح على رأسه بالماء، سواء أكان بارداً أو حاراً في الوضوء والغسل.


(١) ابن رشد الجد (٤٥٠ – ٥٢٠ هـ، ١٠٥٨ – ١١٢٦م) هو محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة، من أعيان المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف، من تآليفه: المقدمات الممهدات في الأحكام الشرعية، البيان والتحصيل، مختصر شرح معاني الآثار للطحاوي (الأعلام: ٥ / ٣١٦ – ٣١٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>