للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسواء أكان مصدر هذا الحكم أخلاقيًا مجردًا يتعلق بآداب التعامل والسلوك، أو اقتصاديًا يتمثل في منفعة مالية متقومة، فإنه في كل الأحوال ينطوي على اختصاص ما، يعطي صاحبه حق التسلط على ما اختص به، وذلك هو معنى الحق.

إذن، فالتأليف يورث صاحبه حقًا يتعلق بمحله الذي هو ثمرة جهده الفكري أو العلمي.

ولكن ما هي طبيعة هذا الحق؟ أهو حق مادي مالي، أم هو حق معنوي خال عن شوائب النفع المادي أو المالي؟

ونقول في الجوانب:

في العصور الغابرة، حيث كانت الإبداعات الفكرية والعلمية تنشأ داخل أفكار أصحابها، ثم لا تستقر إلا بكتابتها على أيدي النساخ الذين كانوا يبذلون جهودًا شاقة في عملية النسخ والكتابة: لم يكن يتجلى لهذا الحق أي معنى أو قيمة، أكثر من مجرد اختصاص نسبة، تكسب صاحبها، كما أوضحنا، المثوبة والثناء، فيما هو مقبول ومستحسن، وتعرضه للقدح والعقاب فيما هو مرفوض ومستهجن.

أما القيمة المالية، فلم يكن ليبدو شيء منها، منوطًا بتلك الإبداعات العلمية. من حيث هي إبداع علمي، أي بقطع النظر عن أعطيات الحكام والأمراء ونحوهم.. ومن ثم لم تطرح فكرة الحق المالي في التأليف في أي من تلك العهود الغابرة، وربما لم تكن تخطر من أحدهم على بال وعلى هذا فبوسعنا أن نقول: إن هذا الحق كان حينئذ حقًا معنويًا.

ولكن، فما السبب في ذلك؟

إن السبب يتمثل فيما يلي:

إن القيمة المالية في الشيء إنما يبرزها، بل يوجدها، العرف الاجتماعي، سواء أعرفنا المال بأنه كل ما يمكن حيازته مما يمكن الانتفاع به كما هو رأي الحنفية، أو عرفناه بأنه مطلق ما كانت له قيمة يعتد بها عرفًا كما هو رأي الجمهور.

ذلك لأن إقبال الناس على الشيء بالاستفادة منه أو إعراضهم عنه، هو الذي يلعب الدور في إعطاء ذلك الشيء أو عدم إعطائه القيمة ...

ومن أبرز الأمثلة على ذلك دود القز. فقد مر عهد طويل في بعض البلاد، والناس لا يرون لدود القز أي جدوى، إذا لم يكونوا يقبلون عليه بأي محاولة استفادة، إما لجهلهم بما فيه من المزية المعروفة، وإما لجهلهم بسبل الوصول إلى هذه المزية فيه.. ومن ثم فلم يكن التعامل به مشروعًا، حتى إذا تبدلت الأحوال وتنبه الناس إلى ما فيه من مزية، وتمرسوا بسبل استخراج الحرير منه، تغير الحكم فأصبح التعامل به مشروعًا، بل أصبح مصدرًا من مصادر الثروة والتجارة (١) .


(١) انظر ما كتبه الإمام النووي موسعًا في أثر العرف في المنافع والأموال، وحكم بيع دود القز. في المجموع: ٩ / ٢٢٧ و٢٤٠ وما بعد. وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين: ٢ / ١٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>