للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يكن في مألوف الناس وعرفهم السائد أن جهدًا فكريًا أو عمليًا ظهر من خلال كتابة مرقومة على صفحات، يقوم بأي قيمة مالية، ما عدا قيمة الورق والحبر والجهد الذي بذله الناسخ في الكتابة.

نعم، ربما كان ينظر إليه من خلال قيمة معنوية قد تكون أهم وأخطر، كخدمة الدين وإزالة كثير من الغواشي التي قد تغشي عليه، وكاللذة التي يجدها القارئ في الاطلاع على حقيقة علمية كانت محجوبة أو غائبة، أو في حل مشكلة فكرية مستحكمة.

والمفروض أن فائدة عظيمة كهذه يتسابق إليها الناس ويتنافسون عليها، من شأنها أن تتحول إلى قيمة مالية ومنفعة متقومة، بمقتضى ما يفرزه قانون العرض والطلب.

غير أن الذي كان يحول دون ذلك أن هذه الفائدة – على الرغم من أهميتها – كانت تستهلك في جهد الناسخ وعمله الصبور الدائب، وذلك نظرًا لما كانت الكتابة تتطلبه من صبر وجهد آنذاك.

وهكذا، فإن الكتاب مهما عظمت الفائدته المعنوية ومهما كان محل رغبة عالية من جماهير الناس، فإن القيمة المالية التي يمكن أن تقدر تلك الفائدة بها، تذوب وتختفي إزاء قيمة الجهد الكبير الذي كان النساخ يبذلونه في سبيل رصد هذه الفائدة وتسجيلا، بحيث تبدو قيمة النسخ مساوية أو أغلى من قيمة المضمون العلمي أو الفكري للكتاب.

ولمزيد من الإيضاح نقول: إن جهد الناسخ لكتاب ما عندما يقدر بعشرة دنانير مثلا، فإن القيمة الاسمية له لن تزيد في السوق على هذا المبلغ. ذلك لأن الناسخ هو الذي يقرر الثمن، وإنما الثمن من وجهة نظره قيمة جهده اليدوي وتكاليف الكتابة، إن كان من وجهة نظر المشتري قيمة ما يتضمنه الكتاب من علم وإبداع فكري إذ هو لا ينظر إلى الجهد الكتابي – مستقلًا – بأي اعتبار ذاتي! ...

ويمكن أن يقال عندئذ إن هذا المؤلف له قيمة مالية في نظر القراء المقبلين عليه، ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن هذه القيمة استهلكت داخل القيمة التي اقتضاها جهد الكتابة وتكاليفه. وهكذا فإن المؤلف لم يكن يخطر بباله قط أن يجعل من أعماله العلمية مصدر رزق، لأن وصولها إلى أعين القراء وأفكارهم كان يتطلب دائمًا جهدًا أغلى أو مساويًا لقيمة أعماله العلمية تلك.

ولهذه المسألة نظير معروف في حياتنا اليوم، وهو أننا كثيرًا ما نتأكد من وجود معادن ثمينة داخل بقعة ما من الأرض التي في جوزتنا. غير أن السعي إلى استخراج هذه المعادن وتصفيتها يتطلب من الجهد والتكاليف ما قد يربو ثمنه على القيمة تلك المعادن، ووجوه الاستفاده منها.. لا ريب أن قيمة تلك المعادن تضمحل وتذوب إزاء الجهود والصعوبات التي تقف في طريق استخراجها. وعندئذ يصح أن يقال إن هذه المعادن لا تنطوي – حكمًا – علي أي قيمة مالية حية.

<<  <  ج: ص:  >  >>