للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان من هؤلاء عمرو بن عامر الخزاعي، فإنَّه كان زعيمًا مطاعًا في قومه، وهو أول من غيَّر دين العرب، ففي صحيح البخاريَّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أنَّ أول من سيَّبَ السيوب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجرُّ أمعاءه في النَّار)) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يَجْرُّ قُصبَهُ في النار، كان أول من سيَّب السيوب)) . وقد أنكر القرآن ما شرعه هذا الزعيم وجعله عرفًا يُتَّبع وعادة محكَّمة فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (١) .

وما أنكر الحقُّ تحريمه في هذه الآية أمور معروفة عند أهل الجاهلية، فالبحيرة الناقة تُبْحَرُ أذنها أي تشقُّ، ثم ترسل، فلا يركبها أحد، يفعلون بها ذلك إذا ولدت خمس بطون. والسائبة أن تسيَّب الناقة وتجعل كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، يفعل بها صاحبها ذلك في حال وقوع أمر نذره كان يحب وقوعه. والوصيلة كانت العرب إذا ولدت الناقة أنثى لهم، وإذا ولدت ذكرًا فلآلهتهم، وإذا ولدتهما قالوا: وَصَلْت أخاها، فيحرم ذبحها. والحام: الفحل، يحمل من ظهره عشرة أبطن، فيحرم ذبحه وظهره، ولا يمنع من مرعى ولا ماء.

وقد أقام نوح في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وأخيرًا دعا الله أن لا يُبْقي منهم صغيرًا ولا كبيرًا: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (٢) .

وإبراهيم حاول أن يستثير التفكير في قومه الضالين، ليتركوا معبوداتهم التي لا تملك شيئًا من خصائص الألوهية {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (٣) .

وفي خاتمة المطاف جاء الرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه بالحق الأبلج، والملة السمحاء، والشريعة الغراء، فنابذه العرب العداء، ورموه عن قوس واحدة، وعذبوا صحبه وآذوه وحاصروه وتأمروا عليه لسفك دمه، وأرسلوا الجيوش الجرارة لقتاله، فقتلوا من صحبه وقتل منهم، كلُّ ذلك حفاظًا على ما ألفوه واعتادوه {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (٤) .

ولكن العرب بعد جهد شديد أبصروا الحق، وأقلعوا عما اعتادوه. وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، وعلت كلمة الله، واستنار الناس بنور الحقَّ، وجاهد العربُ الأممَ الأخرى حتى أخرجوهم عن عاداتهم وأعرافهم وتراثهم الضالة، وهدوهم كما اهتدوا، ولم تزل الشريعة الإِسلامية في دار الإسلام هي الشريعة التي تهيمن على الحياة، وتصنع الأعراف، ويجري عليها الأمر في المحاكم والقضاء.


(١) سورة المائدة: الآية ١٠٣.
(٢) سورة نوح: الآيتان ٢٦، ٢٧.
(٣) سورة الشعراء: الآيات ٧٢-٧٤.
(٤) سورة ص: الآيات ١-٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>