للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد لا نختلف مع علماء القانون الوضعي في أن القانون الوضعي أفضل من العرف البشري، ولكننا نضع القانون الوضعي والعرف البشري في كفة واحدة في مقابل الشريعة.

إنَّ القوانين البشرية في كثير من الأحيان ظالمة قاسية توضع لمصلحة فريق من الناس ضدَّ بقية فئات المجتمعات، والأعراف قد تقوم على جهالات وضلالات موروثة يشقى بها المجتمع، وليس فيها منتفع كاسترقاق المدين المعسر عند الرومان وفي جاهلية العرب، وكوأد البنات والسائبة في الجاهلية، وكدفن الزوجة حيَّة مع زوجها إذا مات عند الهنود الوثنيين، وكدفن نفائس الأموال مع أصحابها عند قدماء المصريين (١) .

الأعراف والعوائد البشرية تقف – في كثير من الأحيان – حاجزًا أمام دعاة الإِصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحقَّ مظلومين منبوذين لدعوتهم الناس إلى الرجوع إلى الدَّين الحقَّ الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ومطالبتهم الناس بترك ما هم عليه مما يخالف شريعة الإسلام وآداب الإِسلام.

ولذلك فإنَّ الإسلام يأبى كلَّ الإِباء أن يكون العرف هو القاضي والحاكم بين الناس، كما يأبى أن يترك هذه المهمة لرجال من البشر يضعون للناس الشرائع والقوانين، ولذا فإنَّ الشريعة الإِسلامية عندما حكمت أقصت العرف وحصرته في دائرة ضيقة، وإبقاء الشريعة الإِسلامية للعرف في الدائرة التي حدَّدتها يمثل واحدًا من أسرار خلود الشريعة واستمرار صلاحيتها لكلَّ زمان ومكان، ذلك أن الشريعة لم تقع في الخطأ الذي وقع فيه رجال القانون عندما تبنوا أحكامًا متغيرة، فجعلوها ثابتة دائمة، ومن ذلك المسائل التي تركتها الشريعة للعرف مقرة تغيرها بتغير الزمان والمكان.

وإذا أمعن الباحث النظر في مزايا العرف التي دونها رجال القانون، فإنَّه يجدها وهمًا، فكثير من الأعراف التي تسيطر على المجتمعات إنَّما سادت فيها بقوة الحاكم وسلطانه، فلما طال الأمد عَضَّوا عليها بالنواجذ، واتخذوها شِرْعة ومنهاجًا، وكثير من الأعراف التي يعدُّها الناس من محاسن العرف هي في الحقيقة أغلال وقيود.

إن العوائد والأعراف تمثل نهجًا يختلط فيه الصواب بالخطأ، والحقُّ بالباطل، وهي تحتاج إلى تقويم وتهذيب، مثلها في ذلك مثل القوانين الوضعية والشريعة الإلهية هي الصالحة لتحقيق الخير الخاص من الشوائب.


(١) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا، ص: ٨٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>