للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) }

يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، حَيْثُ كَانُوا قَلِيلِينَ فكثَّرهم، وَمُسْتَضْعَفِينَ خَائِفِينَ فقوَّاهم وَنَصَرَهُمْ، وَفُقَرَاءَ عَالَةً فَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَاسْتَشْكَرَهُمْ (١) فَأَطَاعُوهُ، وَامْتَثَلُوا جَمِيعَ مَا أَمَرَهُمْ. وَهَذَا (٢) كَانَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ قَلِيلِينَ مُسْتَخْفِينَ مُضْطَرِّينَ (٣) يَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ بِلَادِ اللَّهِ، مِنْ مُشْرِكٍ وَمَجُوسِيٍّ وَرُومِيٍّ، كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لَهُمْ (٤) لِقِلَّتِهِمْ وَعَدَمِ قُوَّتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَآوَاهُمْ إِلَيْهَا، وقَيَّض لَهُمْ أَهْلَهَا، آوَوْا وَنَصَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَهُ وآسَوا بِأَمْوَالِهِمْ، وَبَذَلُوا مُهَجهم فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ.

قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامة السَّدوسي، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ} قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلا وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا، وَأَبْيَنَهُ ضَلَالًا مَكْعُومِينَ عَلَى رَأْسِ حَجَرٍ، بَيْنَ الْأَسَدَيْنِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا فِي بِلَادِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَيْءٍ يُحْسَدُونَ عَلَيْهِ، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلا مِنْ حَاضِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ، وَجَعَلَهُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ. وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رَأَيْتُمْ، فَاشْكُرُوا لِلَّهِ نِعَمَهُ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِم يُحِبُّ الشُّكْرَ، وَأَهْلُ الشُّكْرِ فِي مَزِيدٍ مِنَ اللَّهُ [تَعَالَى] (٥) (٦)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) }

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ والزُّهْرِيُّ: أُنْزِلَتْ فِي أَبِي لُبابة بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظة لِيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَشَارُوهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ -أَيْ: إِنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ فَطِنَ أَبُو لُبَابَةَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَحَلَفَ لَا يَذُوقُ ذَوَاقًا حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَانْطَلَقَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةٍ مِنْهُ، فَمَكَثَ


(١) في أ: "واستكثرهم".
(٢) في د: "وهكذا".
(٣) في د، ك، م، أ: "مضطهدين".
(٤) في م: "أعدائهم".
(٥) زيادة من أ.
(٦) رواه الطبري في تفسيره (١٣/٤٧٨) وهذا كلام عظيم من إمام جليل يبين أن لا عز إلا بالإسلام وقد جاء عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا بغير الإسلام أذلنا الله".

<<  <  ج: ص:  >  >>