للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ الْمَغْرَاءِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ -يَعْنِي الْمُزَنِيَّ-عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَردم بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي مِنَ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ. فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَقَالَ: يَا عَامِرَ الْوَادِي، جَارَكَ. فَنَادَى مُنَادٍ لَا نَرَاهُ، يَقُولُ: يَا سِرْحَانُ، أَرْسِلْهُ. فَأَتَى الحملَ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ فِي الْغَنَمِ لَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}

ثُمَّ قَالَ: ورُوي عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، نَحْوُهُ.

وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الذِّئْبُ الَّذِي أَخَذَ الْحَمَلَ -وَهُوَ وَلَدُ الشَّاةِ-وَكَانَ جِنِّيًّا حَتَّى يُرهب الْإِنْسِيَّ وَيَخَافُ مِنْهُ، ثُمَّ رَدَّه عَلَيْهِ لَمَّا اسْتَجَارَ بِهِ، لِيُضِلَّهُ وَيُهِينَهُ، وَيُخْرِجَهُ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} أَيْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ رَسُولًا. قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ.

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) }

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْجِنِّ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِهِ لَهُ أَنَّ السَّمَاءَ مُلئَت حَرَسًا شَدِيدًا، وَحُفِظَتْ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا، وَطُرِدَتِ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَقَاعِدِهَا الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. فَيُلْقُوهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكَهَنَةِ، فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِطُ وَلَا يُدْرَى مَنِ الصَّادِقُ. وَهَذَا (١) مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ (٢) وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أَيْ: مَنْ يَرُومُ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ الْيَوْمَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا مُرْصِدًا لَهُ، لَا يَتَخَطَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، بَلْ يَمْحَقُهُ وَيُهْلِكُهُ، {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} أَيْ: مَا نَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا؟ وَهَذَا مِنْ أَدَبِهِمْ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَسْنَدُوا الشَّرَّ إِلَى غَيْرِ فَاعِلٍ، وَالْخَيْرَ أَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ". وَقَدْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ يُرمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِكَثِيرٍ بَلْ فِي الْأَحْيَانِ بَعْدَ الْأَحْيَانِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٣) بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: "مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ


(١) في م: "فكان هذا".
(٢) في م: "عليه".
(٣) في م: "كما في حديث العباس".

<<  <  ج: ص:  >  >>