للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيَعْنِي قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} يَسَعُ خَلْقَهُ كُلَّهُمْ بِالْكِفَايَةِ، وَالْإِفْضَالِ وَالْجُودِ (١) .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {عَلِيمٌ} فَإِنَّهُ يَعْنِي: عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ، مَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ، بَلْ هُوَ بِجَمِيعِهَا عَلِيمٌ.

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) }

اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَالتِي تَلِيهَا عَلَى الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ-وَكَذَا مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، مِمَّنْ (٢) جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ لِلَّهِ وَلَدًا. فَقَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ} أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا افْتَرَوْا، وَإِنَّمَا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ، وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، ومُقَدِّرهم وَمُسَخِّرُهُمْ، وَمُسَيِّرُهُمْ وَمُصَرِّفُهُمْ، كَمَا يَشَاءُ، وَالْجَمِيعُ عَبِيدٌ (٣) لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُمْ، وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، وَلَا مُشَارِكٌ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ! كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْأَنْعَامِ: ١٠١] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا* تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مَرْيَمَ: ٨٨ -٩٥] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سُورَةُ الْإِخْلَاصِ] .

فَقَرَّرَ (٤) تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ، الذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ مَخْلُوقَةٌ لَهُ مَرْبُوبَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ! وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَقَرَةِ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَين، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ -هُوَ ابْنُ مُطْعَمٍ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبني ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّاي فَيَزْعُمُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ. فَسُبْحَانِي (٥) أن أتخذ صاحبة أو ولدا".


(١) في ط: "بالكفاية والجود والإفضال"، وفي ب: "بالكفاية والأفضال والجود والإفضال".
(٢) في ب، أ: "من".
(٣) في ط: "والجميع عبد".
(٤) في أ، و: "يقرر".
(٥) في ط: "سبحاني".

<<  <  ج: ص:  >  >>