للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحد عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" (١) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوفي عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عينُها، أفنكْحُلُها؟ فَقَالَ: "لَا ". كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لَا" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ (٢) وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَمْكُثُ سَنَةً". قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرة فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ -حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ -فَتَفْتَضَّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ (٣) .

وَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [الْبَقَرَةِ: ٢٤٠] ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ.

وَالْغَرَضُ أَنَّ الْإِحْدَادَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الزِّينَةِ مِنَ الطِّيبِ، وَلُبْسِ مَا يَدْعُوهَا إِلَى الْأَزْوَاجِ مِنْ ثِيَابٍ وحُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَجِبُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَجِبُ فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.

وَيَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى جَمِيعِ الزَّوْجَاتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ وَالْآيِسَةُ (٤) وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، وَالْمُسَلَمَةَ وَالْكَافِرَةُ، لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا إِحْدَادَ عَلَى الْكَافِرَةِ. وَبِهِ يَقُولُ أشهبُ، وابنُ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَحَجَّةُ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٥) :"لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا": قَالُوا: فَجَعَلَهُ تَعَبُّدًا (٦) . وَأَلْحَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ الصَّغِيرَةَ بِهَا، لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ. وَأَلْحَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ الْأَمَةَ الْمُسَلَمَةَ لِنَقْصِهَا (٧) . وَمَحَلُّ تَقْرِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ وَالْفُرُوعِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أَيِ: انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ (٨) . قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَيْ: عَلَى أَوْلِيَائِهَا {فِيمَا فَعَلْنَ} يَعْنِي: النِّسَاءُ اللَّاتِي انْقَضَّتْ عِدَّتُهُنَّ. قَالَ الْعَوْفِيُّ (٩) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِذَا انْقَضَّتْ عِدَّتُهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وتتصنَّع وَتَتَعَرَّضَ لِلتَّزْوِيجِ، فَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ. رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوَهُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ: هُوَ النِّكَاحُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالسُّدِّيِّ نَحْوُ ذَلِكَ.

{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) }


(١) صحيح البخاري برقم (٥٣٣٧) وصحيح مسلم برقم (١٤٨٦) من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها، وصحيح البخاري برقم (٥٣٣٤) وصحيح مسلم برقم (١٤٨٦) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
(٢) في جـ: "وعشرا".
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٣٣٦) وصحيح مسلم برقم (١٤٨٨) .
(٤) في جـ: "الصغير والكبير".
(٥) في جـ: "عليه السلام".
(٦) في جـ: "مقيدا".
(٧) في جـ: "لبعضها".
(٨) في جـ، أ، و: "عدتها".
(٩) في جـ: "قال الوالبي".

<<  <  ج: ص:  >  >>