للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في معرفته وتمييزه إلى أكثر من سماعه.

ذلك هو وجهُ تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنه مباين بنفسه لكل ما عُرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، وعلى أنه يؤاتي بعضه بعضاً، وتُناسب كل آية منه كل آية أخرى

في النظم والطريقة، على اختلاف المعاني وتباين الأغراض، سواء في ذلك ما كان مبتدأ به من معانيه وأخباره وما كان متكرراً فيه، فكأنه قطعة واحدة، على خلاف ما أنت واجده في كلام كل

بليغ من التفاوت باختلاف الوجوه التي يُصرفه إليها، والعلو في موضع والنزول في موضع، ثم ما يكون من فترة الطبع ومسحةِ النفس في جهة بعث عليها الملل، أو جهة استؤنف لها النشاط، ثم

ما لا بدَّ منه من الإجادة في بعض الأغراض والتقصير في بعضها، مما يختلف البلغاءُ في علمه والإحاطة به، أو التأتي له والانطباع عليه؛ وهذا كله معروف متظاهر في الناس لا يَمتري فيه أحد.

وليس من شيء في أسلوب القرآن ويغُض من موضعه، أو يذهب بطريقته أو يُدخله في شبهٍ من كلام الناس، أو يرده إلى طبع معروف من طباع البلغاء، وما من عالم أو بليغ إلا وهو يعرف

ذلك ويعد خروج القرآن من أساليب الناس كافة دليلاً على إعجازه، وعلى أنه ليس من كلام إنسان، بيد أننا لم نرَ أحداً كشف عن سر هذا المعنى، ولا ألمَّ بحقيقته، ولا أوضح الوجهَ الذي من أجله خالف أسلوب القرآن كل ما عرف من أساليب الناس ولم يشبه واحداً منها، ونحن نوجز

القول فيه لأنه أصل من أصول الكلام في أساليب الإنشاء ولبسطه موضع سيأتيك في بابه إن شاء الله.

فقد ثبتَ لنا من درس أساليب البلغاء، وتردادِ النظر في أسباب اختلافها وتصفح وجوه هذا الاختلاف، وتعرفِ العلل التي أثرت في مباينة بعضها لبعض، من طبيعة البليغ وطبيعة عصره -

أن تركيبَ الكلام يتبع تركيبَ المزاج الإنساني، وأن جوهر الاختلاف بين الأساليب الكتابية، في الطريقة التي هي موضع التباين لا في الصنعة كالمحسنات اللفظية ونحوها - إنما هو صورة الفرق

الطبيعي الذي به اختلفت الأمزجة بعضُها عن بعض على حسب ما يكون فيها أصلاً أو تعديلاً؛ كالعصبي البحْت، والعصبي الدموي، وغير ذلك مما هو مقرر في الفروع الطبية، حتى كأن الأسلوب في إنشاء كل بليغ متمكن ليس إلا مزاجاً طبياً للكلام، وما الكلام إلا صورة فكرية من صاحبه.

وقد أمعنا في هذا الاستنتاج، وقلبنا عليه كل ما نقرؤه من أساليب العربية - وهي معدودة -

ومَرَرنا على ذلك زمناً، حتى صار لنا أن نستوضحَ أكثر أوصاف الكاتب من أسلوب كتابته، برد ذلك إلى الأوصاف النفسية التي تكون من تأثير الأمزجة والتي قلما تتخلف في الناس، وبها أشبه بعضهم بعضاً، وبها كان التاريخ يعيد نفسه.

وأنت تتبين هذه الحقيقة إذا عرفت أديباً ليمفاوي المزاج مثلاً، وأردته على أن يأخذ في

<<  <   >  >>