أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه، وعلى ما صح مستفاضا عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره إذ لك تكن الأحرف السبعة واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزا لهم مرخصا فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه. قالوا: فلما رأى الصحابة أن الأمة تتفرق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل محظور. قلت: فكتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واستفاض دون ما كان قبل ذلك مما كان بطريق الشذوذ والآحاد من زيادة، وإبدال وتقديم وتأخير وغير ذلك، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة كالإمالة والتفخيم والإدغام والهمز والحركات وأضداد ذلك مما هو في باقي الأحرف السبعة غير لغة قريش، وكالغيب والجمع والتثنية، وغير ذلك من أضداده مما تحتمله العرضة الأخيرة إذ هو موجودة في لغة قريش وفي غيرها، ووجهوا بها إلى الأمصار، فأجمع الناس عليها، وسيجيء في الباب السادس من كلام المهدوي، وغيره ما يحقق لك ذلك.
ثم كثر الاختلاف أيضا فيما يحتمله الرسم وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد المسلمين تلاوته فوضعوه من عند أنفسهم وفاقا لبدعتهم كما قال من المعتزلة:"وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا"[النساء: ١٦٤] بنصب الهاء، ومن الرافضة:"وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلَّينَ عَضُدًا"[الكهف: ٥١] بفتح اللام يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما وقع ذلك رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للقيام بالقرآن العظيم فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف أئمة مشهورين بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين، وكمال العلم أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء واشتهر أمرهم وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم فيما نقلوا وتوثيقهم فيما قرؤوا ورووا وعلمهم بما يقرئون، ولم تخرج قراءتهم عن خط مصحفهم، فمنهم بالمدينة أبو جعفر وشيبة ونافع، وبمكة عبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج وابن محيصن، وبالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وبالشام عبد الله بن عامر وعطية بن قيس الكلابي ويحيى بن الحارث الزماري، وبالبصرة عبد الله بن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي. ثم إن القراء بعد ذلك تفرقوا في البلاد وخلفهم أمم بعد