وهذا القول صدر منه - صلى الله عليه وسلم - على وجه التمثيل فجعل مثل المدينة وما يصيب ساكنيه من الجهد والبلاء كمثل الكير وما يوقد عليه في النار فيميز به الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب فيه أزكى ما كان وأخلص وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والوصب والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم، قال عياض: هذا مختص بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك، وقال النووي: ليس هذا بظاهر لأن عند مسلم ((لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد)) وهذا والله أعلم في زمن الدجال كما جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره مسلم في أواخر الكتاب في أحاديث الدجال أنه يقصد المدينة فترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق، قال: فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة – انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد كلاً من الزمنين أي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن الدجال وكان الأمر في حياته - صلى الله عليه وسلم - كذلك للسبب المذكور ويؤيده قصة الأعرابي الآتية فإنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره معللاً به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة عن البيعة ثم يكون ذلك أيضًا في آخر الزمان عند ما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه، وأما ما بين ذلك فلا – انتهى. واستدل بالحديث على أن المدينة أفضل البلاد لأنها تنفي الخبث، قال الحافظ: وأجيب عن ذلك بأن هذا إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق}(سورة التوبة: الآية ١٠٢) والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون الناس ووقت دون وقت، وقال في موضع آخر: قال ابن بطال: فيه تفضيل المدينة على غيرها بما خصها الله تعالى من أنها تنفي الخبث ورتب على ذلك القول بحجية إجماع أهل المدينة، وتعقب بقول ابن عبد البر أن الحديث دال على فضل المدينة لكن ليس الوصف المذكور لها عامًا في جميع الأزمنة بل هو خاص بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن يخرج منها رغبة عن الإقامة معه إلا من لا خير فيه، وقال عياض ونحوه، وأيده بحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم: لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الفضة. قال: والنار إنما تخرج الخبث والرديء وقد خرج من المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من خيار الصحابة وقطنوا غيرها وماتوا خارجها فذكر المذكورين وزاد فيهم أبا موسى وأبا ذر وحذيفة وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء وغيرهم، قال: فدل على أن ذلك خاص بزمنه - صلى الله عليه وسلم - بالقيد المذكور ثم يقع تمام إخراج الرديء منها في زمن الدجال، وورد فيه " فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه " فذلك يوم الخلاص – انتهى. (متفق عليه) أخرجاه في