ورأى المشركون بأعينهم انتشار الإسلام في كل مكان، وعلموا بما تم بين الرسول - صلى الله عليه وسلم- وأهل المدينة من البيعة على النصرة والإيمان، فأزعجتهم تلك الأخبار، وأقلق نفوسهم ما يتوقعون من انتصار التوحيد على الوثنية التي استماتوا في الدفاع عنها، وحز في نفوسهم أن يتغلب محمد - صلى الله عليه وسلم - عليهم بعد هذا العناد الطويل.
تواعد القوم أن يلتقوا في دار الندوة، وأن يطرحوا هذا الموضوع الذي شغل بالهم على بساط البحث، وعزموا على أن يتخذوا فيه قرارا حاسما مهما كلفهم ذلك.
لقد ماتت خديجة التي كانت تقف دونه بمنزلتها ومن يؤازرها من عشيرتها، ومات أبو طالب الذي كان يفديه ويدافع عنه، لم يعد هناك ما يحول بينهم وبين الإيقاع به فلماذا يترددون؟
وبدأت الجلسة بحماس لم تعرفه دار الندوة من قبل، إن المسألة في نظرهم مسألة كرامة، لقد سفه محمد عقولهم، وعاب آلهتهم، وعرض بآبائهم فماذا بقي لهم؟، إنهم إن لم ينتصروا لآلهتهم المهانة وعقولهم المسفهة وآبائهم المجرحين فلا خير في العيش، ولا فائدة في الحياة.
قال أحدهم في انفعال شديد:"أرى أن تحبسوا محمدا في الحديد، وتغلقوا عليه بابا، ثم تتربصوا به ما أصاب الشعراء من أشباهه".
ورفض الاقتراح من غير مناقشة طويلة حيث لا يستحق المناقشة لأنهم يعتقدون أن أصحاب محمد لا تعجزهم فرصة يختلسونها ثم يطلقون فيها سراحه.
وقال آخر:"خير لكم من ذلك أن تنفوه من بلادكم، فإذا خرج عنا فلن نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، وحينئذ نصلح أمرنا، وتعود إلينا ألفتنا كما كانت".
ولم يكن هذا الاقتراح خيرا من سالفه، فقد رفض لأول وهلة، لقد غاب عن صاحب الاقتراح أن خوفهم من خروجه أكثر من خوفهم من بقائه، ولم يفطن إلى أنه لو خرج من بينهم يكون خطره عليهم أشد، وتهديده لعقيدتهم أقوى حيث يستطيع أن يجمع من الاتباع ما يمكنه بهم أن يجتاح عليهم ديارهم، ويغلب عليها دونهم عندئذ قام أبو جهل وقال:"إن لي رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد"، وقال الحاضرون في لفهة:"هاته يا أبا الحكم"، قال أبو جهل:"أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابا جليدا نسبيا وسيطا فينا ثم نعطي كل واحد منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فيرضوا منا بالعقل، فنعقله"١.
وفرح القوم برأي أبي جهل، وأيدوه من غير نظر ولا مناقشة، وكيف لا وهم لم يجتمعوا إلا ليتخلصوا من محمد. إن اقتراح أبي جهل هذا قد كشف عن قبح الاقتراحين السابقين وسخفهما بقدر ما كشف عن حمق صاحبيهما، لا شك أن حبس محمد في الحديد سيثير عاطفة بني هاشم إن لم يحرك عاطفة كثير من الناس الذين