للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المدينة - قائلا ثلاثا، وفي الموطأ أيضا: "المدينة مهاجري، وبها قبري، ومنبها مبعثي، وأهلها جيراني، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال"، وهي ما يسيل من أهل النار، وغير ذلك كثير، فهل كنا ننتظر أن ينزل عليها المطر ونحن على الأقل لم نحفظ حق الجوار مع خير جار صلى الله عليه وسلم؟! إنه إن ينزل سبحانه الماء يوما، فما أظنه من أجلنا، وإنما ليسقي وينبت من أجل الحيوان الذي لم يأثم، ونحن بعد ذلك تبع، كما ورد ضمن حديث صحيح: "ولولا البهائم لم تمطروا".

إن الذين كانوا هنا يوما ونبيهم أسوتهم، كانوا عندما يصلون صلاة الاستسقاء لا يغادرون مكان الصلاة حتى يبللهم المطر، بل ينزل المطر قبل النزول من فوق المنبر، ولنذكر من زاهر هذا العصر قليلا عسى أن يأخذ منه أهل عصرنا شيئا لأنفسهم.

يروي البيهقي في دلائله الحادثتين الآتيتين: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد من بني فزارة، مقرين بالإسلام؛ فسألهم عن بلادهم، فشكوا جدبها لانقطاع المطر عنها، فقام صلى الله عليه وسلم وصعد المنبر، فكان مما حفظ من كلامه: "اللهم أسق بلادك وبهيمتك، أنشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء"؛ فتكلم أبو لبابة ابن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقنا"، فقال أبو لبابة: إن التمر في المرابد، ثلاثا، فقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره"؛ فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت وهم ينظرون، ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس سبتا، أي من السبت إلى السبت، حتى قام أبو لبابة يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج منه التمر". وفي رواية: "فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: "أشهد أن الله على كل شئ قدير، واني عبد الله ورسوله".

والحادثة الثانية: أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي وأنشده هذه الأبيات:

أتيناك والعذراء يدمي لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... فسل منزل قطر الماء من فضل

وليس لنا إلا الله مهرب ... وأنت مجاب السؤال، ما أنجب الرسل

فقام صلى الله عليه وسلم يجر ردائه حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء، ثم قال: "اللهم اسقنا غيثا تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها"، فما ردّ صلوات الله عليه يديه إلى نحره حتى نزل الغيث.

ومن كلمات العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستسقي في عهد عمر رضي الله عنه: "اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك لا شريك لك، اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة؛ فاسقنا الغيث؛ فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض".

وقد يقول قائل: هذا نبي وعصر نبوة، وهل جعل الله النبي وعصر النبوة، إلا لكل أجيال المؤمنين أسوة؟ أم انقطعت اليوم أسوتنا بنبينا؟ وبالمهاجرين وبالذين تبوّؤوا الدار والإيمان؟

<<  <   >  >>