ومعنى {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي: يَرْزُق كيف يُريد وكيف يشاءُ، إن شاء قَتَّر، وإن شاء وَسَّعَ. وقال تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ}[الشورى: ٢٧] .
وقال تعالى:{يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ}[الرعد: ٢٦] .
وقال عزَّ وجلَّ:{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير}[آل عمران: ٢٦] ، وهذه الآية ردّ على المعتزلة؛ لأنَّهُم قالوا: يَجِبُ على اللَّه إعْطَاء الثَّوَاب للمُطِيع، ويجبُ عليه ألَاّ يُعاقِبَهُ، فَهَذَا المَنْعُ والقَيْدُ يَجْري مُجْرَى الغلّ، فهم في الحقيقة [قائلون بأنَّ يَدَ الله مَغْلُولة] .
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -[فهُمُ] القَائِلُونَ: بأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، وليس لأحدٍ عليه اسْتِحْقَاقٌ ولا اعتِرَاضٌ، كما قال تعالى:{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً}[المائدة: ١٧] فقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} لا يسْتَقِيم إلا على هذا المَذْهَبِ.
قوله تعالى:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} والمراد بالكثير: علماء اليهود، يعني: ازدَادُوا عند نُزُولِ ما أنْزِل إليك من رَبِّكَ من القرآنِ والحُجَجِ غُلُواً في الكُفْرِ والإنكَار، كما يُقال:«ما زادَتْكَ الموْعِظَةُ إلا شَرّاً» ، وهم كُلَّما نزلت آيةٌ كَفَرُوا بها فازْدَادُوا طُغْيَاناً وكُفْراً.
وقيل: إقامَتُهُمْ [على الكُفْر] زِيَادَةٌ مِنْهُمْ في الكُفْر.
قوله تعالى:«ما أنْزِلَ»«مَا» هنا موصولةٌ اسميَّة في محلِّ رفع؛ لأنها فاعل بقوله:«ليزِيدَنَّ» ، ولا يجوزُ أن تكون «مَا» مصدريةً، و «إلَيْكَ» قائمٌ مقام الفاعل ل «أُنْزِلَ» ، ويكون التقديرُ:«وليَزِيدَنَّ كَثِيراً الإنْزَالُ إلَيْكَ» ؛ لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّلِ، والذي يزيدُهُمْ إنما هو المُنَزَّلُ، لا نفسُ الإنزال، وقوله:«مِنْهُمْ» صفةٌ ل «كَثِيراً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و «طًغْيَاناً» مفعولٌ ثان ل «يَزيد» .
فصل
دلّ هذا الكلامُ على أنَّه تعالى لا يُرَاعى مصالح الدِّين والدُّنيا؛ لأنَّه تعالى عَلِمَ أنَّهم يَزْدَادُون عند إنْزالِ تِلْك الآيَاتِ، [كفراً وضلالاً، فلو كانَتْ أفعَالُه مُعَلَّلَة برعاية المصالِحِ للعباد، لامْتَنَع عليه إنْزَال تلك الآيات] فلما أنْزَلَهَا عَلِمْنَا أنَّهُ تعالى ما يُرَاعي مصالح